تخوّرزم العالم فولد عفريتا
بعد أن دخلنا العصر الخوارزمي من أوسع أبوابه، لا بد من الإشارة والإشادة أيضا بصحيفة "الاقتصادية" التي -حسب ظني- لم تكتف بتغطية الثورة الخوارزمية التي نشهدها حاليا، بل استنبطت للغة الضاد فعلا جديدا من من الاسم "الخوارزمي"، ومن هنا يأتي الفعل "تخوّرزم" في عنوال المقال.
والعربية تبدع في الاشتقاق، ومن الأفعال المحببة لدي والمشتقة من تسميات أعجمية فعل "تلّفز" من "التلفزيون" television .
و"الخوارزمي" عالم عربي مسلم ولد في القرن التاسع الميلادي، وكان أستاذا جامعيا في جامعة بيت الحكمة في بغداد ، هذا عندما كان العرب يمتلكون قصب السبق في العلم والمعرفة والترجمة والنشر والاستنساخ.
اسمه أبو عبدالله بن موسى الخوارومي، وهو عالم فلك وجغرافيا ورياضيات يشار له بالبنان، بيد أن أهم ما توصل إليه هو استنباطه للخوارزمية والتي ترجمت إلى الاتينية algorithm لأن الناطقين بها لم يكن باستطاعتهم نطق حرف "الخاء" و"الزاء" لعدم توافره في اللاتينية.
والخوارزمية التي اخترعها لنا عالمنا الجليل الخوارزمي ما هي إلا معادلة رياضية بسيطة معدة أساسا لحل مشاكلات سهلة أو عويصة وتقديم أجوبة سريعة ومنطقية لما قد يستغرق منا جهدا كبيرا ووقتا طويلا.
وقد يختلف العالم الغربي -أمريكا ومن يدور في فلكها، والعالم الشرقي الصين ومن يدور في فلكها- في النظرة إلى أمور كثيرة ولكنهما متفقان أنهما مدينان للخوارزمي الذي لولاه –حسب ما يؤكد علماء الخوارزميات اليوم– لربما تأخرت الثورة الحوارزمية الحالية، التي صارت تغير ليس وجه العالم بل حتى تكويننا نحن كبشر، إلى ألف سنة أخرى.
ماذا كان يدور في العقل المدهش للخوارزمي وهو يستنطب خوارزمياته ويدرسها لتلامذته في جامعة بيت الحكمة قبل أكثر من ألف سنة؟ هل طرأ على باله أن العالم يوما ما سيُدار بخوارزميات فائقة التطور تصنعها شركات أمريكية وصينية وتأخذ الدنيا برمتها رهينة لديها؟
وهل كان يتصور أن خوارزميته ستجعل العالم أن يقف على قدم ونصف منتظرا ليس كل سنة أو شهر بل ربما كل يوم أين ستأخذ به المعادلات الخوارزمية المبنية على المعادلات الرياضية التي اخترعها وهو يبحث في صومعة له في جامعة بيت الحكمة في بغداد؟
وردت أسئلة مثل هذه في رأسي بعد أن قمت بتنزيل تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني الجديد الملقب بـ"ديب سيك" DeepSeek الذي أخذ العالم كله على حين غرة ورأيت – بالنسبة لي – أنه أفضل بكثير من مثيلاته الأمريكية.
قيل كثير عن انطلاق التطبيق الصيني الجديد ولا أريد الاجترار. إن لم يكن في إمكان الكاتب إلقاء مزيد من الضوء أو الإتيان بما لم يقله من سبقوه فأرى الصمت من الحكمة في مكان.
لن أدعي أن لي شيئا جديدا، بل أن التطبيق الصيني ذكرني بالخوارزمي وبيت الحكمة في بغداد، وعسى الذكرى تنفع.
كان الخوارزمي من آسيا الوسطى، وقدم إلى بغداد، لأن العلوم فيها كانت مفتوحة، أي لا حكر ولا حصار أو منع لنقل أو تلقين أو تدريس أو ترجمة العلوم، التي كانت مشاعة للكل وتحت تصرف الكل، وهكذا كانت خوارزمية الخوارزمي.
التطبيق الصيني أعادنا، من وجهة نظري إلى بيت الحكمة، حيث منشأ الخوارزمية الأولى في العالم، وأتاح لنا مجانا علوم الدنيا وقدمها لنا على طبق من ذهب دون أن يطلب أي مقابل، وهذا يعاكس تماما توجه شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية والغربية المستبدة التي تبذل ما بوسعها لاحتكار العلوم والمعرفة والتكنولوجيا المتطورة وتطويعها من خلال فرض حصار أو منع للحصول عليها، إن لم تتماشى سياساتهم وطلباتهم.
الصين من خلال "ديب سيك" قدمت نموذجا لما يجب أن تكون عليه علوم الذكاء الاصطناعي -متاحة للجميع ورخيصة الثمن إن أرادت دولة أو مجتمع آخر الوصول إليها واستنباط الخوارزميات التي تديرها.
لو كان الخوارزمي بيننا لظننت أنه سيكون سعيدا بالنموذج الصيني، ولكن حزينا لأن اختراعه سرقه الأجانب، بعد أن تخلى عنه بني جلدته.