تطبيق الدليل الاسترشادي لحوكمة الجهات العامة
قبل أشهر صدر الدليل الاسترشادي لحوكمة الجهات العامة، ونشرته جريدة "أم القرى" في أغسطس الماضي، وقد جاء فيه أن الحوكمة تمثل الترتيبات (سواءً الرسمية أو غير الرسمية) التي تحدد كيفية اتخاذ القرارات وتنفيذها، بما يوفر التوجه الإستراتيجي للجهة، ويضمن تحقيق أهدافها، وإدارة مخاطرها، واستخدام مواردها بشكل مسؤول يهدف إلى الحفاظ على قيم الدولة عند مواجهة التحديات والتغيرات.
وهذا تعريف دقيق للغاية، فالفلك الذي تدور فيه الحوكمة بكل مكوناتها هو القرار، حماية القرار من النزعات المختلفة التي تحيد به عن تحقيق أهداف المنظمة، مثل التحيزات الشخصية وغير الشخصية، تحيزات قد يظن متخذ القرار أنه حريص جدا على العمل ومخلص، بينما هو متحيز بشدة لفكرة مسيطرة، أو نموذج عمل لم يعد مناسبا، التحيز هو آفة القرار، وهو في نفس الوقت خفي جدا، ولا يمكن اكتشافه إلا من خلال التطبيق الصارم للحوكمة.
لقد أكد الدليل الاسترشادي أن القرار الصحيح هو الذي يأتي في سياق التوجه الإستراتيجي للجهة، ويضمن تحقيق أهدافها، وإدارة مخاطرها، واستخدام مواردها بشكل مسؤول، وأضاف الدليل أمرا في غاية الأهمية وهو الحفاظ على قيم الدولة عند مواجهة التحديات والتغيرات.
ولهذا يجب على كل جهة أن تضع هذا المفهوم الدقيق نصب أعينها، فالمسألة لا تختص بوجهة نظر المسؤول أو خبراته أو تحيزاته بكافة أشكالها، بل إن المحرك للقرار هو التوجه الإستراتيجي للجهة، ولذلك فهذا أول خطوات بناء الحوكمة. لكن هنا تمكن مشكلة قرار أخرى، فكثير من المؤسسات والجهات تضع التوجهات الإستراتيجية وفقا لما يريده المسؤول الأعلى، وليس وفقا للمصلحة العامة، هنا يأتي الدور الأبرز لمبادئ الحوكمة التي أسسها الدليل الاسترشادي، فهو يضع الإفصاح والشفافية والنزاهة والعدالة والمساءلة والاستدامة كمرتكزات للحد من استغلال السلطة لأغراض خاصة، وكما أشرت فإن مفهوم الأغراض الخاصة لا يعني بالضرورة سلب المال العام بل هو يشمل سوء استخدام السلطة من أجل توجيه الأعمال بشكل لا يحقق مصلحة عامة، ولا تمثيلا حقيقيا وشاملا لحقوق أصحاب المصلحة.
لقد وضع الدليل الاسترشادي 8 مبادئ للحوكمة، هي مبدأ سيادة النظام، مبدأ النزاهة والقواعد الأخلاقية، مبدأ الرقابة والمساءلة، مبدأ الإفصاح والشفافية، مبدأ القيادة، مبدأ الكفاءة وفاعلية الأداء، مبدأ الاستدامة، وحقوق الأطراف ذوي العلاقة.
وقد تم تعريف كل مبدأ في الدليل الاسترشادي، فهي كمثل الكواكب التي تدور حول تعريف الحوكمة، فحماية القرار من كل ما يؤثر فيه بخلاف أهداف الجهة وقيم الدولة، كل ذلك يجب أن يتم ضبطه والتحقق منه وحذفه من المسار، سيادة النظام تضمن تحقيق قيم الدولة دوما، فالنظام هو الذي منح كافة الأطراف في العلاقة (سواء كانت لائحية أو تعاقدية) كافة الحقوق والواجبات، فالبعض قد يتخذ قرارات أو يمارس صلاحيات بسبب الخبرة فقط (أي يظن بخبرته أنها حق له وضمن مسؤولياته) بينما النظام لم يمنحه حقيقة هذه الصلاحيات، وقد يأتي أحدهم من قطاع خاص ويظن أن صلاحياته كرئيس مجلس هناك هي نفسها صلاحياته كرئيس مجلس في الجهة، وهذا غير صحيح ما لم ينص نظام صراحة على ذلك، هذه سيادة النظام، فلا أحد يتصور أنه لمجرد منصبه يحق له فعل ما يشاء كيفما يشاء، بل هو في خدمة النظام ووفقا لتصوراته عن الجهة، فلا يتحيز المسؤول لخبراته بل لنص النظام، وكذلك تأتي مبادئ مثل الشفافية والإفصاح، فهي ليست اختيارا، بل واجب أمام أصحاب العلاقة.
وفي هذا الجانب ممارسات أقل ما يقال عنها سيئة، بحجج واهية، فالإفصاح له وسائله وطرقه، ولكل صاحب مصلحة في الجهة مستوى محدد من الإفصاح، ومنع أصحاب المصلحة المشاركين في القرار من المعلومات لفرض توجهات معدة مسبقة عليهم هو التحيز بعينه مهما قيل عن سلامة النوايا وصلاح الفكرة.
إن لب الحوكمة هو المشاركة في القرار، لكن المشاركة في القرار تفقد كل معانيها إذا تم حجب المعلومات الصحيحة في لحظة القرار، حتى لو تحقق اجتماع متكامل الأركان وتم ضبط القرار بمحاضر صحيحة، فإن القرار يأتي معيبا ومتحيزا، والحديث يطول عن كل مبدأ، لكن الدليل الاسترشادي لم يضع آليات للحوكمة لكل مبدأ، ولا تطبيقات معينة، فكل مبدأ تتبعه سياسات لتحقيقه وإجراءات للتحقق والمراقبة ونماذج عمل، تركها الدليل الاسترشادي لأنه وضع قاعدة عامة وهي أن ممارسة الحوكمة يجب أن تتوافق مع مهمات الجهات واختصاصاتها وطبيعة عملها.