الحِمى والمحميات ودورها في الإسلام
الحِمى لغةً هي قطعة الأرض الفسيحة وما فيها من عيون وينابيع تُحمى من الناس، ويُمنعون أن يرعوا فيها بأغنامهم ومواشيهم وأنعامهم. وللحمى جذور تاريخية في الجزيرة العربية قبل الإسلام فكانت هذه تقاليد معروفة على مستوى المعابد والمزارات، حيث كانت هناك أراضٍ مخصصة لها أو شبه موقوفة عليها، فكان لصنم ذا شرى حِمى حمته له عشيرة دوس، وبعد مجيء الإسلام أُلغيت أراضي الحِمى المخصصة لمثل تلك الأغراض والغايات، وهناك شكل آخر للحِمى في الجاهلية تذكرها كتب التاريخ، مفادها أن الشريف من العرب وكبير قومه في الجاهلية كان إذا نزل مع عشيرته وأهله أرضاً استعوى كلباً، فكان يحمي لنفسه ولأهله مدى عواء الكلب لا يُشرك فيه غيره، ولا يسمح لغيره أن يرعى فيه؛ زيادةً على ذلك، كان مثل هذا الشريف شريك الناس في سائر المواضع حوله، كما كان لكل قيل (ملك) من أقيال اليمن حِمى، لا يرعى فيه غير مواشيه وأنعامه. ولقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وسمح بما يحمى لخيل المسلمين وإبل الزكاة وركابهم التي تُعدُّ للجهاد، ويحمل عليها في سبيل الله، ومن هنا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا حِمى إلا لله ورسولِه».
وأجاز الرسول صلى الله عليه وسلم الحِمى لأغراض المصلحة العامة بما يخدم مصالح المسلمين، ومن منطلق المصلحة العامة، وحمى الرسول عليه الصلاة والسلام النقيع، كما حمى سرف والريضة وجُرش، وكتب لأهالي الأخيرة: «فمن رعاه من الناس فماله سُحت»، وللرسول في النقيع مسجد، وعرف المكان بشجره الظليل يغيب الراكب فيه، وفيه مياه. وحافظ الخليفة عمر بن الخطاب على هذا الحِمى، وكانت أفراس الجهاد ترعى فيه، ونظراً لأهمية شجر الأراك، مصدر السواك لأهالي الحجاز، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «لا حِمى في الأراك». ونلاحظ أن بعض الوفود التي كانت تؤمُّ المدينة المنورة كانت تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمي لها، فمنها من طلب حِمى جبل لصاحب نحل، وهذا عنزة العذري يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمي لبني عذرة واديهم، وبالإجمال أقر الرسول بشكل عام حمى من دخل الإسلام وحماه له.
ومن تتبّع أخبار الحمى في المصادر الأولية، يجد أن وُلاة الأمر من الخلفاء قد توسّعوا في السماح بالحِمى، فيذكر البلاذري حِمىً للخليفة العباسي المهدي في همدان، ويُشار إلى حِمى بظاهر الكوفة، وكان هناك حِمى لزياد بن أبيه قرب العَذيب. وكانت مساحات الحِمى تختلف من منطقة لأخرى، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى القاعدة التي أرساها الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما قال: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». ورأى الفقهاء أنه يجب للسلطان ألا يحمي جميع أراضي الموات، ولا أن يحمي لنفسه خاصة، ولا أن يحمي الماء العذب، كما أنه لا يحمي للأغنياء ولا لقوم معينين دون غيرهم، بل إذا زالت الحاجة للحِمى، واقتضت المصلحة تغييره، جاز نقضه وردّه إلى ما كان عليه قبل إحمائه.
والقاعدة المُتّبعة في أرض الحِمى أنه لا يؤخذ عوض ممن يرعى في أراضيه أو أراضي الموات أو المراعي التي تملكها الدولة، وهذا عكس ما طُبِّق فيما بعد في أيام الدولة العثمانية التي كانت تتقاضى رسوماً على كل رأس من الغنم أو الماعز أو بقية الأنعام، عرفت هذه الرسوم باسم «حق مرعى»، أو «عادة الأغنام»، التي كانت تُجمع بمعدل آقجة واحدة (والآقجة قطعة فضية كانت تستخدمها الدولة العثمانية) على كل رأسين من الماشية، عندما يلحق الحَمَل بالقطيع للرعي، وبعد قيام المسؤولين العثمانيين بتسجيل الأراضي في أواخر أيام الدولة العثمانية، تركت أراضي البادية وجوارها والصحراء والجبال والأودية دون مسح وتسجيل. وعندما قامت الدولة الحديثة في العالم العربي، توسّعت سلطات الانتداب في تسجيل الأراضي بأسماء أصحابها وتسوية القضايا العالقة، لكنها لم تتمكن من مسح كل الأراضي، وبقي معظمها مملوكا بشكل جماعي، أو ما يُعرف بـ«الروك»، وهو مصطلح قبطي قديم عرف في مصر وتسرب إلى اللغة العربية بكثرة في العصر المملوكي، فكان هناك الروك الناصري والروك الحسامي، نسبةً لأسماء السلاطين الذين أعادوا مسح أراضي السلطنة ووزعوها إقطاعات بين المماليك.
وعند الحديث عن الحِمى يجدر بنا الإشارة إلى أن أراضي الحرم المكي الشريف ومكة المكرمة جزء من الحرم، كما جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت، آية 67)، أي أن الله سبحانه وتعالى آمن الناس في مكة من السبي والغارة والقتل، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله حرّم مكة فلا تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي»، وحرّم الله في الحَرَم الصيد وقطع النبات ونحوهما، والمدينة المنورة وما حولها تبقى حرماً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يُقطع شجرها ولا يُحدث فيها حدث – من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
ونجد أنه كان لمسجدي الصخرة المشرفة والأقصى حرم، ومثل ذلك تقريباً لكل مسجد جامع في البلاد الإسلامية، وجاء ذلك عُرفاً أو على شكل أوقاف حُبست على الجوامع والمساجد. ونلاحظ هذه الأيام ظاهرة استثمار مناطق الحرم المحيطة بالمسجد، ببناء مخازن ومحال تجارية بغرض توفير ريع منتظم لخدمة المسجد من حيث تعميره وصيانته وإدامته، وربما إضافة مرافق أخرى مثل قاعات للتدريس أو لإقامة المناسبات الاجتماعية فيها، من فرح أو ترح. من هنا نرى أن الحمى والحرم قد أدّيا وظيفة اقتصادية واجتماعية في إطار خدمة الجماعة المسلمة، وفيه حماية للبيئة والحفاظ على نظافتها ومحاربة التلوث وصدّه.
وبعيد نهاية القرن العشرين شهدنا في أوروبا وفيما بعد في عموم أنحاء العالم ظاهرة العودة إلى الطبيعة وقيام حركاتٍ للحفاظ عليها ضدّ التلوث والاعتداء على الثروات الحرجية مثلما يتم في مناطق الأمازون ومجاري الأنهار، أو إسالة المياه الملوثة، وبخاصة مياه الصرف الصحي، إلى مجاري الأنهار أو البحار مباشرة قبل معالجتها، مما يترك ذلك من آثار صحية غير محمودة على الثروة السمكية والأحياء المرجانية. وأسوأ أنواع الاعتداءات على الطبيعة ما يجيء من المجمعات الصناعية الكبرى التي تلوث بغبارها وأبخرتها ودخانها الجو، وكذلك إقدام الدول الكبرى على دفن فضلاتها الذرية والنووية أو الإشعاعية في أراضي الغير، مثلما فعلت فرنسا في صحراء الجزائر، وما تمّ في موريتانيا، زِد على ذلك، إغراق الفضلات النووية في أعماق البحار والمحيطات.
وتحولت هذه الحركات في أوروبا إلى تشكيلات سياسية أفرزت أحزاباً عُرفت بالأحزاب الخضر، شاركت في ألمانيا بالحكومة السابقة، وكان من أبرز الوجوه المُعبِّرة عن ذلك يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا الاتحادية السابق. واهتمت الدول العربية بهذا الموضوع، وخصّصت مساحات من أراضيها لأغراض المحميات، واستوردت المها العربي من الخارج، وحاولت إحياء مفهوم الحِمى من جديد. ومن أبرز المحميات التي تذكر محمية صير بني ياس في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي بدأ العمل بها منذ عام 1971م، وأُهِّلت لتكون مأمناً لقطعان الغزلان والمها العربي والزراف وغيرها، وبالطبع سبقتنا كثير من الدول لمثل هذه المحميات، مثل محميات كينيا ومحميات جنوب إفريقيا ومحمية قير في ولاية كنجرات بالهند.
كانت الحِمى تُدار بأدنى درجات التكلفة، والآن أصبحت تُشكِّل عبئاً كبيراً على موازنات الدولة صاحبة العلاقة، من هنا نرى دعوة المسافرين على الطائرات مد يد العون لدعم مشاريع المحميات، وكما نعلم فإن حدائق الحيوانات في الغرب تنعم بدعم الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، ولا تعدم من فاعل خير من أثريائنا يغدق عليهم مما أفاء الله عليه، بينما الفقراء في بلادنا يتضورون جوعاً.