هل تنقذ ألمانيا الاقتصاد العالمي بانسحابها من اليورو؟!
من أدق ما قيل في وصف العملة الأوروبية الموحدة ''اليورو'' الوصف الذي أطلقه وزير الخارجية البريطانية وليام هيج قبل أسابيع عدة عندما شبه منطقة اليورو ''بمبنى يحترق دون أبواب خروج''. والأزمة المالية الأوروبية لم تكن لتوجد أصلا لو لم يكن هناك عملة أوروبية موحدة، ثم كان من الممكن حلها بتكلفة أقل لو كان هناك آلية مناسبة تسمح للدول الأعضاء الخروج من منطقة اليورو إن رأت مصلحتها في ذلك. فبسبب عدم وجود آلية للخروج فإن الدول الأعضاء، سواء تلك الدول التي تسبب وجودها في منطقة اليورو في الحد من خيارات السياسات الاقتصادية المتاحة أمامها للتعامل مع مشكلاتها الاقتصادية كاليونان مثلا، أو تلك الدول التي وجدت نفسها مضطرة لتحمل أعباء إنقاذ الاقتصادات الأخرى الضعيفة؛ تفاديا لانهيار العملة الموحدة وفقد الثقة فيها والتي يأتي على رأسها ألمانيا وفرنسا، فجميعهم وجدوا أنفسهم مضطرين للبقاء في هذا المبنى الذي يحترق، بل وتزداد ناره تسعرا ولهيبا على الرغم من عدم امتلاكهم ما يكفي من وسائل لإطفاء هذا الحريق.
ومعضلة اليورو التي لا مخرج منها هي حقيقة أن الحلول التي تفرض على الدول التي تعاني اقتصاداتها تسهم في الواقع في مفاقمة مشكلات ولا تمثل على الإطلاق حلولا لها، فاضطرار هذه الدول إلى تخفيض الإنفاق الحكومي يعني أن اقتصاداتها ستنكمش؛ ما يقلل من إيراداتها الضريبية التي سيخلق حاجة إلى مزيد من الخفض في الإنفاق العام؛ ما يجعل مشكلة عجز الميزانية في تفاقم على الرغم من كل إجراءات التقشف المتبعة، ويجعل من الضروري إقرار خطط إنقاذ جديدة تزيد من التزامات الدول الأخرى في منطقة اليورو والذي لن يكون عبئا مقبولا في حال أصبح هناك حاجة إلى مزيد من خطط الإنقاذ في منطقة اليورو ولدول عديدة، ومع كل ذلك فإن ضخامة تكلفة الخروج من منطقة اليورو تجعل دول منطقة اليورو تعيش مرحلة إنكار؛ أملا في حدوث معجزة تخرجها من ورطتها.
فاليونان مثلا وعلى الرغم من الصعوبات الكبيرة التي تعانيها، وعلى الرغم من كل ما تسبب به وجودها في منطقة اليورو من قيود جعلتها غير قادرة على اتباع سياسات نقدية تحفيزية أو اللجوء إلى تخفيض قيمة عملتها لدعم صادراتها، وبالتالي مساعدة اقتصادها على الخروج من أزمته، فإنها لا تستطيع الخروج من منطقة اليورو مهما تفاقمت مشكلاتها إلا بثمن باهظ جدا، ففي حال خروجها وعودتها إلى عملتها الوطنية السابقة الدراخما فإن قيمتها ستتراجع مباشرة وبشكل حاد جدا أمام اليورو، الأمر الذي ينتج منه تضخم ديونها؛ كونها مقومة باليورو، تصبح معه اليونان في وضع لا تستطيع معه تسديد ديونها وستضطر إلى إعلان إفلاسها وسينهار نظامها البنكي ما يدخلها في إشكالات جديدة تفاقم من وضعها الاقتصادي السيئ، وأمام هذا الخيار المزري لا تجد اليونان بدا من القبول بخطط إنقاذ زادت من معاناتها وتسببت حتى الآن في انكماش اقتصادها بنسبة 14 في المائة، ولا أمل في المستقبل المنظور أن يتغير هذا الوضع، بل المؤكد أنه سيزداد سوءا.
ما يجعلنا نتساءل هل هناك أي مخرج آخر بتكاليف أقل من هذا المبنى الذي يحترق؟ والحقيقة أن المخرج الوحيد المتاح هو خروج ألمانيا من اليورو وليس خروج اليونان أو غيرها من الدول التي تعاني اقتصاداتها حاليا. فكما أوضحنا سابقا فإن خروج أو طرد الدول الضعيفة من اليورو سيكون كارثة اقتصادية حقيقية على اقتصادات تلك البلدان، أما قيام ألمانيا بالخروج من اليورو فسيعني فقد للثقة بالعملة الأوروبية الموحدة في الفترة التي ستسبق انهيارها التام ما يجعل قيمتها تتراجع بشكل كبير، حيث يصبح بإمكان بقية دول منطقة اليورو الخروج دون أضرار جسيمة تلحق باقتصاداتها باعتبار أن الانهيار الذي سيتعرض له اليورو سيعني أن عملاتها الوطنية قد تحقق على الأرجح ارتفاعا أمام اليورو؛ ما يقلل من قيمة ديونها ويجعلها أقدر على تسديدها، كما ستطلق يد هذه البلدان لاتباع السياسات المالية والنقدية التي تساعدها على تجاوز مشكلاتها.
وقد يقول قائل ما مصلحة ألمانيا في أن تكون أول الخارجين من منطقة اليورو؛ فهي وإن كانت متضررة بسبب اضطرارها إلى تقديم الدعم للدول التي تعاني في منطقة اليورو، إلا أن هذا الدعم يمثل في الواقع دعما للبنوك الألمانية الدائنة لتلك الدول، كما أن الصعوبات التي يواجهها اليورو حاليا تسببت في تراجع قيمته أمام معظم العملات الرئيسة؛ ما جعل الصادرات الألمانية في وضع تنافسي قوي أسهم في القوة الحالية للاقتصاد الألماني، ولو كانت العملة المتداولة في ألمانيا حاليا هي المارك الألماني لشهدت قيمته ارتفاع كبيرا أمام معظم العملات العالمية ولتضررت الصادرات الألمانية بشكل كبير. إلا المكاسب التي تحققها ألمانيا من بقائها ضمن منطقة اليورو مكاسب مرحلية قصيرة المدى لا يمكن أن تكون مبررا لإدخال الاقتصاد العالمي برمته في أزمة مالية قد تكون حتى أعتى وأشد خطرا من أزمة المال العالمية التي حدثت في عام 2008، فاقتصادات العالم الرئيسة تعاني حاليا من حالة ركود ومعظم هذه الدول استنفذت خيارات السياسات المالية والنقدية المتاحة كافة أمامها لمعالجة آثار وتبعات أزمة 2008، ولم يبق لديها من إجراءات أخرى يمكن اتخاذها في حال حدوث أزمة جديدة؛ ما قد يتسبب في انهيار كامل للنظام المالي العالمي يدخل معه الاقتصاد العالمي في كساد حاد. وديناميكية الوضع الحالي لاقتصادات دول منطقة اليورو تؤكد أن مشكلاتها ستزداد تفاقما ولن يكون بمقدور الدول القوية مواصلة تحمل أعباء خطط إنقاذ متواصلة للدول الأضعف وستصل إلى نقطة ستقرر عندها رفض منح مزيد من الدعم ما يتسبب في انهيار اليورو، لكن عندئذ سيكون الوقت متأخرا جدا لإنقاذ الاقتصاد العالمي من هذه الأزمة، بينما الآن بمقدور ألمانيا تحقيق ذلك حتى وإن تسبب مرحليا في ارتفاع قيمة عملتها الوطنية وفي تراجع في قدرتها التنافسية في السوق العالمية وفي القضاء نهائيا على حلم العملة الأوروبية الموحدة الذي سعت ألمانيا بكل تفان ودأب لتراه حقيقة.