هل يتم تفعيل التخطيط الاقتصادي في المملكة؟!
إحدى أهم النتائج التي آمل أن تتحقق من التغييرات التي أقرت الأسبوع الماضي أن يتم تفعيل عملية التخطيط الاقتصادي في المملكة. فوزارة التخطيط التي أنشئت قبل ما يزيد على 35 عاماً، وصدر قرار قبل عدة سنوات بضم الاقتصاد إليها وتغيير مسماها إلى وزارة الاقتصاد والتخطيط ما زالت غائبة عن الاقتصاد والتخطيط ودورها هامشي في كليهما. وهذا الغياب لأي دور تخطيطي حقيقي لوزارة الاقتصاد والتخطيط حد من إمكانية وضع استراتيجيات اقتصادية شاملة في المملكة ومنع قيام تكامل وتنسيق محكم بين جهود الأجهزة التنفيذية المختلفة. فكل ما تقوم به وزارة الاقتصاد والتخطيط في واقع الأمر هو تلقي مقترحات الأجهزة التنفيذية حول ما تود تنفيذه من مشاريع خلال الخطة الخمسية، ودورها يكاد يقتصر على دمج هذه المقترحات في قالب واحد يتمثل في مشروع الخطة الخمسية للدولة، ولا تشمل مسؤولياتها صياغة استراتيجية التنمية الاقتصادية وما يترتب على ذلك من تحديد للمشاريع اللازم تنفيذها من قبل كل جهاز تنفيذي خلال خطة خمسية معينة، بما يحقق التكامل الضروري جداً بين نشاطات مختلف الأجهزة التنفيذية في الدولة. وهذا الغياب لأي عملية تخطيط اقتصادي حقيقي في المملكة هو ما يفسر العجز الواضح في سياساتنا الاقتصادية عن حل مشكلات البطالة والفقر والتضخم والإسكان وسوء توزيع الدخل، رغم كل ما نتمتع به من فوائض مالية وظروف إيجابية كان المفترض أن تكون كفيلة بحل كل تلك المشكلات، إلا أن غياب التخطيط الاقتصادي السليم الشامل حرمنا من كل ذلك فتشتتت الجهود وأهدرت الموارد.
وهامشية الدور الذي تقوم به وزارة الاقتصاد والتخطيط تبدو جلية من كون الكثير من المهام التي يفترض ويجب أن تتولاها بصفتها جهاز التخطيط في الدولة هي مهام موكلة لوزارة المالية حاليا. على سبيل المثال، الجهاز المسؤول عن التخطيط الاقتصادي هو الذي يجب أن يقوم بتحديد حجم الإنفاق الحكومي السنوي وتوزيع هذا الإنفاق على مجالات الصرف المختلفة بما يضمن تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للخطة الاقتصادية، وهذا الجهاز هو الذي يجب أن يتولى مناقشة وإقرار المشروعات المقترحة من الأجهزة الحكومية المختلفة ويحدد ما يخصص لها من مبالغ في ميزانية الدولة، أما الجهة المسؤولة عن إدارة الميزانية، أو وزارة المالية، فيقتصر دورها فقط على تحديد التكاليف الإجمالية للمشروعات التي أقرها الجهاز المسؤول عن التخطيط وعلى تدبير مصادر تمويلها، ليقوم بعد ذلك جهاز التخطيط بتحديد اختياراته النهائية للمشروعات التي تدرج في الميزانية بما يضمن تماشي هذا الإنفاق مع الخطط الاقتصادية المقرة والقيود المالية على إجمالي الإنفاق الذي تحدده له وزارة المالية.
والتجارب الدولية تؤكد أهمية التخطيط الاقتصادي ونجاحه في تحقيق نتائج مبهرة، فالتجربة السنغافورية تظهر أن التخطيط الاقتصادي الدقيق والمنفذ بمهنية وحرص شديدين مكن تلك الجزيرة الصغيرة من نقل اقتصادها من اقتصاد متدني الأداء إلى أن يصبح واحداً من أكثر الاقتصادات العالمية تطوراً وكفاءة. فعند حصول سنغافورة على استقلالها في عام 1959، كان سكانها يعانون من فقر شديد ومعدلات عالية من البطالة ومستوى متدن من التعليم. ولتجاوز هذه المشكلات رأت الحكومة السنغافورية ضرورة وضع استراتيجية محكمة لوضح حد لكل ذلك وكانت الأداة التي حققت لها ذلك هي هيئة التنمية الاقتصادية The Economic Development board EDB التي أنشئت في عام 1961 لتصبح جهازا حكوميا مستقلا تماما عن الجهاز التنفيذي للدولة أنيط به مهمة صياغة الاستراتيجيات الاقتصادية الشاملة ووضع الخطط التفصيلية التي تحدد بوضوح ودقة دور ومهام مختلف الأجهزة التنفيذية، وهذا الأسلوب لم يحقق لسنغافورة تناغم وتضافر جهود تلك الأجهزة فقط، بل ضمن أن تكون الخطط الاقتصادية مبنية على رؤية شاملة للتحديات الاقتصادية تأخذ في الاعتبار الخيارات المتاحة كافة.
هذا الأسلوب في التخطيط الاقتصادي حقق لسنغافورة، وهي البلد الصغير الذي لا يملك أي موارد طبيعية وكانت تعاني مشكلات اقتصادية مستعصية وعلى مدى عدة عقود، واحدا من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم. فبين عامي 1970 و2010 تضاعف حجم الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنغافوري 17 مرة وتضاعف متوسط نصيب الفرد من هذا الناتج سبع مرات، بينما في المملكة وخلال الفترة نفسها نجد أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لم يتضاعف إلا بمقدار 5.9 مرة فقط ولم يزد متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي طوال هذه الفترة إلا بنسبة 23 في المائة فقط. ومن ثم وبعد أن كان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سنغافورة في عام 1970 يعادل 60 في المائة فقط من مستواه في المملكة أصبح في عام 2010 يبلغ ثلاثة أضعاف معدلاته في المملكة، رغم كل ما نملكه من موارد وكوننا على مدى عدة عقود أكبر مصدر للنفط في العالم بينما سنغافورة بلد فقير بالموارد وكل ما تملكه تخطيط سليم نفذ بدقة ومهنية عالية ما مكنها من تحقيق معجزة اقتصادية، ويجب ألا نحبط ونعتقد أن الوقت قد فات لتغيير حالنا وتصحيح أوضاعنا بشرط أن نعقد العزم على القيام بالعمل نفسه ونؤديه بالإتقان والدقة ذاتها.