الرأي والحقيقة
لكل منا رؤيته وانطباعاته عن الأشياء والأحداث والأفكار المحيطة به التي يتداولها بينه وبين نفسه أو بينه وبين الآخرين. نستطيع تكوين انطباعاتنا ورؤانا عن الجماعات المحيطة بنا والظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال محددات عديدة مثل الخلفية الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ تلعب هذه المحددات دورا رئيسا في رسم رؤية كل منا عما يدور من حوله من أحداث، وعن ما يقرأه من أفكار أو آراء.
إلا أن هناك حقائق يتفق عليها جميع الناس ــــ العقلاء ــــ كشروق الشمس من الشرق وكروية الأرض والقوانين الرياضية والعلمية الأخرى التي تعتمد على حقائق مجربة واضحة النتائج دون مواربة أو تفسير. هذه الحقائق هي التي تشكل المشترك الواضح بين المجتمع العقلائي، والتي عادة ما تكون جسرا للعبور من ثقافة إلى أخرى، ومن جماعة لأخرى. شرح الحقائق يتأثر بالعوامل التي أشرت إليها أعلاه ـــ الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ــــ بطريقة كتابتها وتوضيحها. ولنأخذ مسألة كروية الأرض أو الحقائق الكونية الأخرى، فهناك من كتب عنها وشرحها وسرد الأدلة العقلية والتجريبية عليها وتوقف عند هذه النقطة، وهناك من كتب وأوضح جميع الاستدلالات العقلية والتجريبية عن كروية الأرض ثم هاجم جميع من لا يصدق هذه الحقيقة واصفا إياه بالجهل. ما جعل الأول يتوقف بعد سرد الأدلة وتوضيحها هو خلفيته الثقافية والاجتماعية... إلخ، وما جعل الثاني يتجاوز لوصف من لا يصدق هذه الحقيقة الواضحة بالجهل هو خلفيته الثقافية أيضا، فاختلاف مقاربة وشرح هذا الأمر من كلا الطرفين يعود لاختلاف الثقافات والبيئات التي عاش فيها كل منهما.
رؤيتنا وانطباعاتنا عما يجري حولنا من أحداث أو حول ما نسمعه من أفكار هو مجرد رأي له وجه استدلالي منطقي بالنسبة لنا، وانطباعات الآخرين ورؤاهم عن الأحداث والأفكار هي آراء أيضا لها وجهها الاستدلالي المنطقي بالنسبة لأصحابها. المهم هنا ليس من يوافق رأيه الصواب ومن يجانب رأيه للصواب، لأن الصواب والخطأ هنا نسبي ومحكوم بالثقافة والبيئة والدين، واختلافهما هو العامل المؤثر بشكل كبير في اختلاف الآراء والانطباعات. وحتى في بعض العلوم النظرية مثل علم النفس أو علم الاجتماع أو الأدب، فإن اختلاف النظريات حد التضارب يعتمد بشكل رئيس على بيئة صاحب الرأي.
يجب التفرقة بشكل واضح بين ما هو رأي واجتهاد لشخص ما وبين ما هو حقيقة، فاختلاف الفقهاء مثلا في الحكم في أمر معين ليس صراعا بين الحق والباطل، بل هو يقوم على اختلاف مقاربة النصوص من زوايا مختلفة، وهذا طبيعي، أما رفض هذا الاختلاف الفقهي أو الأدبي أو الاجتماعي ومحاولة إنزال رأي معين على الجميع هو ضرب من إلغاء الآخر. إن الرأي اجتهاد و ليس حقيقة أنزلها الله من عالي سماواته، وإجبار الناس على رأيك يسمى طغيانا وتجبرا.