حقوق الإنسان وناقوس الخطر

كانت أمسيةٌ من أماسي كانون الثاني (يناير) الشاتئة تلك التي جمعتنا مع نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان معالي الدكتور زيد الحسين بمعية ثلةٍ من النبلاء والأكاديميين، وكان الحديث بيننا حديثٌ لا تنقصه الصراحة والشفافية حول نشر ثقافة حقوق الإنسان، الإنجازات والرؤى والتصورات، وقد أثارت سخونة اللقاء وحميمية الطرح الأشجان حول حقوق الإنسان
وذو الشوق القديم وإن تسلى..
مشوقٌ حين يلقى العاشقين.
إن قضية حقوق الإنسان على المستوى الدولي قضية مسيّسة تخدم أهداف الدول العظمى وهذا أمر مشاهد. وما انتهاك إسرائيل حقوق الإنسان في غزة إلا شاهد على نسبية هذه الحقوق وهلاميتها. لقد استطاع الغرب ببراعة فائقة امتطاء قضية حقوق الإنسان وتسخيرها لأهدافه ورؤاه.
هذا على المستوى الدولي أما على المستوى المحلي، ففي تقديري أن هيئة حقوق الإنسان برغم ما قيل وما يقال عنها، حققت نجاحاً على أرض الواقع، بل إن مجرد وجودها بحد ذاته يعد نجاحاً.
ولعل تعريف المجتمع ومؤسساته المختلفة بالهيئة ودورها الرقابي والاحتسابي يعد الخطوة الأولى. ثم إن العمل على نظام الحسبة والاحتساب هو لب عمل هيئة حقوق الإنسان، والاحتساب باختصار هو إنكار المنكر، وما يتضمنه من نشر العدل ودفع الظلم وهذه غاية نبيلة يجب أن نسعى لها جميعا، لكن ثمة أمرٌ ينبغي التنبيه إليه وهو أن الخطأ أو الخلل في الممارسة لا يلغي الفكرة أو النظرية، وهذا أمرُ مقرر عند جميع العقلاء - وطائفة من المجانين - وتأكيداً لهذه المسلمة لم نسمع عاقلاً ينادي بإغلاق المستشفيات بسبب بعض الأخطاء الطبية التي قد تحصل هنا أو هناك، وقل مثله في جميع أجهزة الدولة التي تسيِّر دفة المجتمع.
إن من المفارقات العجيبة في حقوق الإنسان أننا ننادي بحقوق الإنسان والمحافظة عليها وعدم انتهاكها من الإنسان ذاته فهو الضحية والجلاد والحكم، ويخطئ البعض حين يختزل قضية حقوق الإنسان في معادلة ذات طرفين، الطرف الأول، الفرد أو المواطن، والطرف الثاني، الدولة أو النظام، ممثلة بأحد أجهزته، وهذه وإن كانت قد يقع من خلالها تعد أو ظلم للإنسان إلا أن الأمر الذي نغفل عنه هو الظلم الواقع بين الأفراد أنفسهم وانتهاك حقوق الإنسان بين الناس بعضهم بعضا حتى ليظن الإنسان أن هذا الظلم مركبٌ لا ينفك عن طبيعة الإنسان، وكأن الظلم هو القاعدة والعدل هو الاستثناء.
والظلم من شيم النفوس فإن
تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم.
وانتهاك حقوق الإنسان بين الأفراد أنفسهم هو النسبة العظمى من المظالم، والشاهد على ذلك امتلاء السجون بالمجرمين الذين انتهكوا الحقوق وتعدوا على إحدى ضرورات الإنسان الخمس: الدين، النفس، المال، العقل، النسل.
وهي حقوق جاء الإسلام بالمحافظة عليها، وقد حدد علماء الإسلام مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح الناس ودفع المضار عنهم، وقسم العلماء هذه المقاصد إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، وهذه المقاصد لها صبغة تراكمية منطقية: فالأهمية والأولوية يجب أن تتجه نحو الضروريات الخمس، والمحافظة عليها، وتجريم انتهاكها، ثم الحاجيات ثم التحسينيات.
ولذا فإن من الأهمية بمكان استقرار هذا الأمر لدى العاملين في مجال حقوق الإنسان، وهي أن الجريمة وانتشارها أكبر سبب لدق ناقوس الخطر في مجال حقوق الإنسان، فهي خرق صارخ للضرورات الخمس للإنسان التي لا تتصور الحياة دونها، إذ يتزايد القلق العام من هذه الظاهرة، والمتابع للصحف اليومية وأحاديث المجالس وهي تعد مقياساً لنبض الشارع يجد أن ثمة ارتفاعاً في معدلات الجريمة واحترافاً في أساليب إيقاعها، الأمر الذي يتطلب من المجتمع بكافة مؤسساته بما فيها هيئة حقوق الإنسان التنادي لمعالجة ظاهرة الجريمة.
إن علينا وعلى مؤسسات المجتمع وأجهزة الدولة حماية الناس من المجرمين، ومن وقوع الجريمة، كما أن علينا حماية الناس من أن يكونوا مجرمين، وذلك بمعالجة موضوع الجريمة من الجذور والأسس من خلال علاج الأسباب التي تؤدي إليها، مثل البطالة أو فشو المخدرات - وإن كانت المخدرات جريمة بحد ذاتها - أو تغذية العصبية الجاهلية، أو الفقر وتآكل الطبقة الوسطى التي يجب أن نحافظ على وجودها إذ تلعب دوراّ مهماًّ في حفظ توازن إيقاع المجتمع، أو غيرها من الأسباب .وعلاج جذور المشكلة ليس مسؤولية المؤسسة الأمنية فحسب، بل مسؤولية أجهزة الدولة المختلفة: التربية والتعليم، المؤسسة الدينية، والمؤسسة الاجتماعية.
إن علاج جذور الجريمة كفيل بالحد منها وخفض معدلاتها إلى المعدل الطبيعي. وفقه معاجلة الأسباب والجذور للجريمة يخفف العبء على الأجهزة المعنية في معالجة النتائج والظواهر، وهذا أمرٌ حاضرٌ في الفقه الراشدي، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقم حد السرقة في عام الرمادة، لانتشار المجاعة وقحط الأرض، حتى كانت كالرماد، وقد توافرت دواعي السرقة للناس للإبقاء على حياتهم.
ثم بعد توافر المعالجة طويلة الأمد لجذور الجريمة تأتي العقوبة وإيقاعاها على المجرم والتي يجب الصرامة والقوة فيها " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله"
أقول هذا لأن الناس لا ينظرون إلا إلى المشهد الأخير، فتجدهم ينادون بالعفو والتسامح، ونسوا أو تناسوا أن هذا المجرم تعدى وانتهك حقوق أخيه الإنسان.
وأرجو ألا ننخدع بمسألة رفض العقاب البدني أو الانخداع بالشعارات الواهية مثل (إهانة الكرامة) أو (اللا إنسانية).
وفي السياق الثقافي لهذه المعالجة ينبغي التنبيه إلى مثل سائد يكتنفه الخلل وهو قولهم" مَن أمن العقوبة أساء الأدب "وهو مثل تلوكه الألسنة ويصور الإنسان بأنه شرير بطبعه لا يردعه إلا العقوبة، والخلل في هذا المثل ناشئ عن تغييب موضوع الفطرة في الطبيعة الإنسانية، ففيها دواعي الخير والشر" فألهمها فجورها وتقواها".

خاطرة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناسِ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي