بيروت وتاريخ المدينة!

[email protected]

أمضيت الأشهر الأخيرة في قراءات مكثفة ومركزة في تاريخ لبنان عامة، وبيروت خاصة. وقد استوقفني عدد من الكتب ذات الأهمية والقيمة، من بينها كتاب تاريخ لبنان للمؤرخ الأكاديمي والخبير الاقتصادي جورج قرم، وكذلك كتاب "تاريخ لبنان الحديث" للمؤرخ والكاتب فواز طرابلسي، الصادر حديثاً عن دار رياض الريس. وكنت قد قرأت له كتابه المثير "ياقمر مشغرة: المحسوبية، الاقتصاد، التوازن الطائفي" الذي يصب في الاتجاه نفسه، حيث يؤرخ فيه للبنان الكبير من خلال تأريخ بلدة مشغرة، التي هي إحدى بلدات البقاع الغربي اللبناني، وذلك بأسلوب مختلف ومثير، حيث عَمَد في تأريخه لهذه البلدة اتكاءً على أرشيف ووثائق عائلية ليخرج بمحصلة غنية تحكي عن شبكة التحالفات السياسية والمصالح الاقتصادية المتقلبة والنزاعات الطائفية ونظام المحسوبية.
غير أن الكتاب الذي صدر بالعربية عام 2007 عن دار النهار، والمعنون بـ" تاريخ بيروت" لشهيدها الصحافي اللامع والباحث الجاد سمير قصير، هو كتاب مختلف جداً ومثير ومغرٍ، بل هو استثنائي في كتابة تاريخ المدن العربية، التي لا يزال أغلبها بلا تاريخ مدوّن!
أمضى سمير قصير أكثر من عشرة أعوام في كتابة تاريخ بيروت، جمع فيه بين أسلوبه الصحافي السلس وبحثه الأكاديمي المتزن، إضافةً إلى ثراء المعلومة وتنوعها. الأمر الذي يغري القارئ المدقق، حينما يجد سميراً يأخذ به يميناً وشمالاً، بكل ذكاء وبراعة وثقافة، في دهاليز وتفاصيل دقيقة للغاية في تاريخ بيروت وتاريخ ساكنيها على مر العصور، منذ الفينيقيين وإلى مطلع الألفية الجديدة، مروراً بصراعات الجبل والمدينة ولبنان الطوائف والاستقلال وبناء الدولة والنهضة الثقافية التي أشرقت ذات يوم على تاريخنا العربي، حين مثلت بيروت طليعة الحداثة الفكرية والأدبية والإعلامية، ولم يفت سمير أن يقف على ليالي بيروت الصاخبة واحتضانها بؤر اليسار العربي واضطراباتها السياسية ورحى حروبها ودمارها، لتتشرذم بيروت فيغادرها محبوها ومبغضوها، إن كان ثمّة مبغضون لها!
ولعله من المؤسف أن سميراً قضى دون أن يقرأ كتابه باللغة العربية، ويقرأ ردود الفعل عليه من قبل النُخب الثقافية والاجتماعية والسياسية في لبنان، وإن كان قد كتبه وقرأه منشوراً بلغته الأم الفرنسية.
وقفت مشدوهاً أمام هذا الكتاب العظيم، وتمنيتُ لو كُتب تاريخ المدن العربية، ذات العراقة، كما كتب سمير تاريخ مدينته، التي عشقها وأحبها ومات من أجلها وأجل تاريخها. وبعد فراغي من قراءة الكتاب، كتبتُ رسالة عبر الهاتف المحمول إلى عدد من الأصدقاء المثقفين، المتابعين للشأن اللبناني والمشغولين بهاجس كتابة تاريخ المدن، تضمنت الرسالة إخبارهم بصدور الكتاب، وأن من قُدر له قراءته فسيجد نفسه أمام تاريخ مدينة كتبه باحترافية بالغة أحد المؤرخين الكبار، مضيفاً مستفزاً لهم: إنه من غير الممكن أن يقوم صحافي أو باحث بكتابة تاريخ مدينته، كما فعل سمير!
توالت ردود الأصدقاء، وكانت في أغلبها مؤيدة، ثم انحرف النقاش عبر رسائل المحمول! إلى موضوع آخر، كان سببه سمير نفسه، ومحوره سؤال، وهو: لماذا يعجر الكثير من الأكاديميين والصحافيين والكُتاب لدينا عن التصدي للقيام بمشاريع ثقافية - بعيداً عن مشاريع القصة والرواية- كما يفعل الآخرون وببراعة متناهية؟!
لم أجد إجابة حاسمة عن هذا السؤال، لكنه يبقى سؤالاً طرحه مُلح ومهم، خاصةً على الأكاديميين، الذين دخل الكثير منهم الجامعة وميدان البحث العلمي في سن الشباب وغادروها سن اليأس دون أن يضيفوا جديداً ثقافياً في مجتمعهم!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي