أزمة القوقاز.. حدث له ما بعده

[email protected]

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 قيل إنها نهاية الحرب الباردة وظهرت مقولة " نهاية التاريخ" التي قال بها المفكر الأمريكي الياباني فوكوياما. وملخصها أن نهاية الحرب الباردة بانتصار الغرب على الشيوعية يعني السيادة النهائية للنموذج الرأسمالي الغربي على العالم. وإن التحدي الإسلامي أو الكونفوشيوسي لن يستطيعا الانتصار على الغرب. وقد مر العالم خلال العقدين الماضيين بفترة عصيبة من سيطرة أمريكا كقطب وحيد في سماء العلاقات الدولية، كما مرت روسيا بفترة عصيبة من الاضطرابات الداخلية وفقدان هيبتها كقوة عظمى في المجال الدولي. ولكن الأمر لم يطل، فالحماقات الأمريكية من ناحية في كل من أفغانستان والعراق وما ترتب على ذلك من صعوبات بالغة واجهتها أمريكا في كلا البلدين من جهة، ثم ظهور قيادي شاب وحازم في روسيا هو فلاديمير بوتين وتحسن أوضاع روسيا السياسية والاقتصادية من جهة أخرى، يفتح صفحة جديدة في تاريخ توازن القوى في العالم. والحقيقة أن القول بانتهاء الحرب الباردة قول فيه نظر. فالحرب قد انتهت من جانب الطرف المهزوم فيها، وهو روسيا ولكنها كانت مستمرة من طرف أمريكا خاصة وحلف الأطلسي عامة. فأمريكا لم تأل جهداً في القيام بمغامرات عسكرية في أماكن مختلفة من العالم، بعضها كان مناطق نفوذ للاتحاد السوفياتي السابق. كما أن عملية تطويق روسيا ازدادت شراسة عن طريق توسيع عضوية حلف الأطلسي بضم جميع دول حلف وارسو السابق إليه إضافة إلى بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق كدول البلطيق، فضلا عن الحديث عن ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف. ثم إصرار أمريكا على نصب الدرع الصاروخي في كل من: بولندا وتشيكيا بحجة التصدي لخطر إيراني مزعوم. ولم تقبل أمريكا بعرض روسي بديل بنصب ذلك الدرع في أذربيجان تحت إشراف أمريكي ـ روسي مشترك. ولقد أرسلت روسيا عدة إشارات تحذيرية إلى الغرب منها الإعلان عن بعض برامج أبحاث التسلح وإرسال بعض القاذفات الاستراتيجية للتحليق بالقرب من القواعد الأمريكية في جزيرة جوام في المحيط الهندي. ولم يكترث الغرب لاحتجاجات روسيا وتهديداتها. ولم يتوقع الغرب أن الدب الروسي يتربص بهم الدوائر وأنه قادر على تحويل تهديداته إلى عمل ملموس، حتى وقعت الواقعة عندما قدم الرئيس الجورجي ميخائيل سيكاشفيلي الفرصة للروس على طبق من ذهب بقيام قواته بعمليات عسكرية في أوسيتيا الجنوبية.
كان لسان حال القيادة الروسية " لقد تحملنا منكم ما يكفي وآن الأوان لكي نقوم بعمل يضع الأمور في نصابها الصحيح". وقامت روسيا بغزو جورجيا في الثامن من آب (أغسطس) الماضي. و كان بإمكانها احتلال تبليسي عاصمة جورجيا وإسقاط نظام الحكم فيها بحجة أنه يهدد الأمن القومي الروسي، تماماً كما فعلت أمريكا في أفغانستان والعراق من قبل. ولكن يبدو أن روسيا لم تشأ أن تكرر تجربتها المريرة في أفغانستان أو أن آلة الدعاية الروسية لم تبلغ شأو نظيرتها الأمريكية في الدجل والكذب. وبدلا من الخيار الأفغاني ـ العراقي اختار الروس الخيار البلقاني: تقطيع أوصال جورجيا بالاعتراف باستقلال كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا تماماً كما فعلت أمريكا وحلف الأطلسي في يوغوسلافيا ابتداءً من حرب البوسنة وانتهاءً بكوسوفا. وهذه أولى النتائج الداعمة لأزمة القوقاز. ويترتب على ذلك أمران مهمان جداً أولهما إيجاد موطئ قدم دائم لروسيا على البحر الأسود من خلال أبخازيا. وهي بذلك قد تستغني عن الموانئ الأوكرانية على البحر نفسه. وكانت أوكرانيا قد هددت روسيا بعدم السماح للسفن الحربية الروسية بالعودة إلى الموانئ الأوكرانية. وأما النتيجة المهمة الثانية فهي تذكير الغرب أن خطوط أنابيب النفط المارة بجورجيا ليست بمأمن من التهديدات الروسية. وكانت الشركات الغربية قد أنفقت خمسة مليارات من الدولارات على بناء شبكة أنابيب النفط القادم من حقول أذربيجان على بحر قزوين إضافة إلى تطوير موانئ في أبخازيا وتركيا لنقل ذلك النفط. وهذه الخطوط هي خط أنابيب باكو- تبليسي شيهان وخط باكو سوبشا وخط باكو - تبليسي - أرضروم، إضافة إلى تطوير موانئ يوتي وباتومى وكوليفى على البحر الأسود في أبخازيا ومينائي شيهان وأرضروم في تركيا. على أن أهمها هو خط أنابيب باكو - تبليسي - شيهان والذي يبلغ طوله 1760 كيلومترا وطاقته مليون برميل في اليوم.
الأوضاع الجديدة تعنى أن الروس يقولون للغرب لقد عدنا إلى ما كان عليه الوضع أيام الحرب البادرة "منابع النفط لكم ولكن طرقه لنا ". والحقيقة أن الروس ليسوا محتاجين لاحتلال جورجيا لتفعيل هذا التهديد، إذ بإمكان بعض العصابات المسلحة القيام بعمليات ميكي ماوس لتذكير الغرب بضعف أمنه النفطي. وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن أوروبا تعتمد اعتمادا كبيراً على الغاز الروسي المار بأوكرانيا. أدركنا مدى الصعوبات الجمة التي تواجهها أوروبا في الوصول إلى موقف موحد ضد روسيا. كما أن أمريكا ليست في وارد القيام بأي عمل مادي ملموس، فهي لا تزال تلعق جراحها في العراق وتواجه هي وحلفاؤها صعوبات جمة ومتزايدة في أفغانستان. وتشكل هذه المناطق بعضا من الخيارات الروسية لو حاول الغرب توسيع نطاق المواجهة. كما أن الغرب محتاج إلى روسيا والصين لمعالجة الملفين النوويين الكوري الشمالي والإيراني.
إن التهديد الروسي المباشر لطرق النفط يعني أن التوترات السياسية ستشكل عامل ضغط دائم على أسعار النفط . وسيكون على كل مستثمر في هذا المجال أخذ هذه المخاطر في الحسبان. وعلى الرغم من أن توترات سياسية سابقة وحالية (كالأوضاع في العراق وإيران وفنزويلا ونيجيريا) أثرت وتؤثر في أسعار النفط إلا أن الفارق فيما بعد أزمة القوقاز أن التهديد يأتي من إحدى الدول الكبرى والتي يمكن أن يكون لسياساتها آثار أوسع بكثير من التهديدات الإقليمية سالفة الذكر.
ستجد روسيا صعوبة كبيرة في إقناع أكثر دول العالم باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وقد حاولت روسيا حشد بعض الدعم الدبلوماسي لوجهة نظرها بدعوة منظمة شنغهاي للتعاون إلى الاجتماع. ويبدو أن روسيا لم تحصل على ما تريد. وربما حاولت الصين إقناع الروس بألا حاجة في الوقت الحاضر لإعلان مثل هذا الدعم، فهو قد يوسع نطاق المواجهة مع الغرب. كما يبدو أن الرسالة قد وصلت. وستجد الصين نفسها من الآن وصاعداً بين شد مصالحها الاقتصادية مع الغرب من ناحية وجذب الظهير الاستراتيجي الروسي المطالب لها بالدعم من ناحية أخرى. وقد تجد الصين نفسها في وضع لا يكفي معه لعب دور الوسيط بين الطرفين، وإنما عليها الانخراط كارهة في لعبة الشد والجذب لتقاسم النفوذ وحماية المصالح. لقد درجت أمريكا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق على إتباع سياسة الترهيب والمغالبة من ناحية وسياسة النفاق حول الديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية، وأضاعت بذلك فرصة ذهبية كي تقدم نفسها كقوة بناءة لسلام حقيقي في العالم. وهي تدفع الآن ومعها بقية دول الغرب ثمن سكوتها على الوحشية الروسية التي طحنت شعب الشيشان طحنا لعدة سنوات وفي منطقة القوقاز نفسها. ولكن شعب الشيشان المسلم لا بواكي له. ويبدو أن التطورات في المرحلة المقبلة لا تعتمد على رد فعل الغرب تجاه روسيا، فهو سيكون أغلب الظن عاجزاً عن مواجهة فعلية لعكس ما حدث في القوقاز. ولذلك فإن تطورات الأمور ستعتمد على الأهداف الحقيقية بعيدة المدى لروسيا. فعلى روسيا أن تقرر ما إذا كانت ستكتفي بحماية أمنها في مجالها الحيوي المباشر أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى تقاسم النفوذ والمصالح في العالم. أغلب الظن أن روسيا ليست مستعدة بعد للخيار الثاني فهي مازالت في مرحلة استعادة عافية سلبها تحجر النظام الشيوعي سابقاً وفترة الاضطراب التي تلت ذلك النظام لاحقاً.

* أستاذ الاقتصاد المشارك
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي