في سويسرا : لا يتحدث باللغة الإنجليزية أحد!
قد لا يصدق القارئ لعنوان هذه المقالة أنه لا توجد أي أولوية للغة الإنجليزية في سويسرا، حيث لا يجيد التحدث بها إلا القليل جدا ممن لا يشكلون نسبة يعتد بها أو يعترف بها رسميا من قبل النظام السويسري.. ولكن هذا واقع المجتمع والدولة السويسرية التي تضم أعرق موقع للصناعة المالية والبنكية في العالم وتحظى بأفضل المواقع الخلابة الجميلة التي تجذب السياح من شتى أرجاء العالم، كما تفخر بصناعة الشيكولاته الفاخرة العالية الجودة في العالم.
ففي خلال معايشتي للمجتمع السويسري من خلال حضوري لمؤتمر اقتصادي عن الأزمة المالية العالمية قبل عدة أيام، تهيأت فرصة لي سانحة لأتعرف على ثقافة هذه الدولة المتقدمة العريقة في مجموعة الدول الصناعية والأكثر رقيا ورفاهية في العالم.... ولقد تحطم لدي فخري بمعرفة التحدث باللغة الإنجليزية عندما فاجأني في أول يوم موظف بنك عريق أمام فندقي، في وسط مدينة جنيف بالاعتذار بلكنة مكسرة عن التحدث معي بقوله OK FRENCH , SORRY ENGLISH NO، وقد كان يمكنني أن أتوقع ذلك من رجل سويسري من جمهور الشارع لا من موظف في بنك عريق.
وقد دفعني هذا الموقف إلى استطلاع أكبر عن ثقافة هذه الدولة وكيانها ولغاتها.. وبعد الحوار مع شخصيات خبيرة بالواقع السويسري علمت أن اللغة الرسمية هي ثلاث لغات شعبية معترف بها رسميا، وأخرى محدودة الاستعمال غير معترف بها.. أما اللغات الرسمية فقد عجبت أنه ليست إحداها اللغة الإنجليزية.. وإنما هي اللغة الألمانية (70 في المائة من الشعب) اللغة الفرنسية (20 في المائة من الشعب) واللغة الإيطالية (8 في المائة من الشعب) ويبقى 2 في المائة يتحدثون فرعا مهجنا من اللغة الرومانية.
كيف إذا يتفاهم شعب سويسرا فيما بينهم وكيف يتفاهمون مع العالم؟ لا شك أنه يوجد عدد لا يستهان به من الأفراد السويسريين يجيدون التحدث باللغة الإنجليزية (كلغة ثانوية) ليتعاملوا بها مع العالم... ولكن لم تدعهم ضرورة ولا حاجة إلى استخدام لغة وسيطة (الإنجليزية أو غيرها) للتفاهم فيما بينهم فكل شعب يتعامل بلغته الأم في مواقعه الجغرافية الخاصة به سواء كان ذلك في التعليم أو الإعلام أو المعاملات التجارية والبنكية أو داخل الشركات الخاصة بمنطقة اللغة الأم أو حتى اللوحات المرورية للطرق الداخلية أو السريعة. الطفل والشاب والرجل السويسري لا يحتاج إلى أن يؤخر تطوره الثقافي بالإعاقة الناتجة من تخيل ضرورة يفرضها المجتمع أن يتعلم لغة أخرى يستقطع لأجلها جزءا مهما من حياته التعليمية والعملية على حساب تطوره في مجال الكفاءات والمهارات والثقافات السلوكية التي لن يجيد تعلمها وإتقانها وممارستها بلغة أخرى بدرجة مكافئة مثل لو أنه تعلمها بلغته الأم.
وهذه الصورة الثقافية والحضارية للمجتمع السويسري من حيث علاقته باللغة تدعونا إلى تسليط الضوء على دور اللغة الإنجليزية في مجتمعنا العربي السعودي الذي يعيش في عالم أخذ يزداد فيه السباق في مجال تطوير الكفاءات والمنتجات.. فهل يعقل أن يتمكن شعب مثل الشعب العربي السعودي من اللحاق بالسباق وهو يترنح تحت أعباء متطلبات الازدواجية أن يعيش بلغتين وراءهما ثقافتان وحضارتان؟ وبالتالي تهدر فيه الكثير من الطاقات والأوقات والموارد فقط لنظهر في مضمار السباق متأخرين خلف الركب وفي مؤخرة الميدان. دعونا نستدل على خطر هذه الازدواجية الثقافية اللغوية بتصورين أحدهما نظري والآخر قياسي تطبيقي. فأما التصور الأول فلو طلب من شابين أن يتسابقا في مقدار تعلم مهارة فنية (ميكانيكية مثلا) من أول صباح اليوم إلى آخر مسائه أحدهما باستخدام لغتين والآخر باستخدام لغة واحدة فمن الذي يسبق يا ترى؟ وأما التصور التطبيقي القياسي فأولهما أن المفوضية الأوروبية قامت بإعداد دراسة عن كفاءة أبناء الجاليات التي لا تستخدم لغتها الأم في التفاعل (تعليما وعملا) مقارنة بأبناء الجاليات التي تستخدم لغتها الأم فوجد أن الكفاءة لا تقارن بين الشريحتين، حيث تفوقت الشريحة المستخدمة اللغة الأم بمراحل على تلك التي تستخدم غير لغتها الأم. كما أفاد أحد استشاريي الطب السعوديين (الذين تعلموا باللغة الإنجليزية في كندا) أن متوسط كفاءة الأطباء الذين تعلموا بلغتهم العربية الأم يتجاوز بشكل ملحوظ زملاءهم المتعلمين للطب بلغة ثانية كاللغة الألمانية أو الإنجليزية.
لقد آن الأوان ونحن نتلمس خطى المجد في سياستنا التعليمية والتنموية في السعودية ألا نبني استراتيجيات التعليم والتنمية على رؤى غير مدروسة أو توجهات غير ممثلة للواقع العملي التطبيقي. ففي هذا الإطار لا يخفى الصراع (عفوا الحوار) الدائر بين متخذي القرارات من الممجدين للتعليم المكثف باللغة الإنجليزية لجميع المواد الدراسية وبين المعتدلين والمطالبين بعدم تجاوز الحد الاستراتيجي المرسوم سابقا في الخطط التعليمية، فهل هذا الحوار والتردد (وربما التخبط) يستند إلى دراسات موسعة استراتيجية وعلمية متخصصة مدعومة بفرق من المتخصصين وأصحاب الخبرات العالمية والمحلية؟ أم أنها مبنية على مجرد التصورات العاطفية المؤقتة المبنية على الإعجاب بالقوي أو الغربي أو الأنجلوسكسوني (أمريكا وبريطانيا)؟
إن كان هناك ناد يطالب أن تقتصر اللغة الإنجليزية تعلما ومهارة على شرائح إخصائيين معينين في كل قطاع أو شركة كبيرة أو وزارة أو جهة سياحية فأنا أحد أعضاء هذا النادي لأن هذا الاتجاه هو الذي يدعم تطوير الكفاءة والثقافة والمهارات العلمية والعملية والسلوكية. لماذا يجبر الناس عامهم وخاصهم صغيرهم وكبيرهم شرطيهم ومدنيهم تاجرهم ودارسهم ومزارعهم ومهندسهم على تعلم لغة أخرى يحتاجون فيها إلى ثقافة أخرى وحياة أخرى فيصابون بالازدواجية وضعف الإمكانية ثم ضياع الشخصية؟
ماذا لو تصورنا أن الحضارة الأنجلوسكسونية انتهت أو أفلت أو هزمت أو تقهقرت فأين نذهب؟ هل يمكن أن ننافس الغرب الأنجلوسكسوني في ثقافته وحضارته دون أن تكون لغتنا الأم هي لغته الإنجليزية أيضا؟ إذا فهل علينا أن نتخلى عن اللغة العربية أو فلندرس المواد الدينية واللغة العربية باستخدام اللغة الإنجليزية؟ أو هل نتحدث باللغة الإنجليزية في بيوتنا مع أنفسنا أو أطفالنا كي نتمكن من أن ننافسهم على التطور في الكفاءات والمهارات والثقافات؟!