النمو النوعي والاقتصاد المعرفي والإنفاق على التعليم (2 من 2)
استكمالاً لما ذكرناه في الحلقة الأولى من هذا الموضوع؛ فإن النتائج تبين أن التوسع في الإنفاق بشكل عام لا يؤدي بالضرورة إلى أفضل النتائج المتوقعة أو الممكنة، وذلك لأن تجنب الحوافز الخاصة برأس المال العيني أو تحسين حقوق الملكية وتسعير الموارد الطبيعية يمكن أن يولد موارد لإعادة تصحيح الاستثمارات الاجتماعية الأقل مما يجب. وتحسين الحاكمية وتخفيض الفساد يوفران كثيراً من الأموال، ومزيد من الشفافية وتوسيع المشاركة في اتخاذ القرار يحسّنان الخدمة العامة. فهذه العناصر الخاصة بالنوعية ذات أهمية مركزية في تقييم الفقراء – وجميع الآخرين – للنمو الاقتصادي وللإنفاق العام .إن أجندة النوعية ليست طلباً لزيادة حجم الحكومة، وإنما هي دعوة لكل أفراد المجتمع للعمل في إطار سياسات صديقة لنظام السوق، للمشاركة في التنمية بفاعلية، وهي أيضا دعوة لتقوية المؤسسات الحكومية وغير الحكومية معاً.
وبتطبيق مفهوم التنمية النوعية والاقتصاد المعرفي على السعودية التي تسعى حالياً إلى مكافحة الفقر من خلال عديد من مؤسسات المجتمع، كما تسعى نحو تضييق الفجوة المكانية للمقاربة بين المناطق الثلاث الأكثر نمواً (مكة المكرمة، الرياض والشرقية) وبقية المناطق العشر الأخرى الأقل نمواً. التنمية النوعية تشمل الاهتمام بتوزيع منافع التنمية بين شرائح المجتمع وبين الأماكن بحيث تؤدي إلى تخفيض الفقر وتقليص الشقة بين المناطق المتباينة اقتصادياً واجتماعياً، في آن واحد.
من جانب آخر، يسهم الاقتصاد المعرفي في تخفيض البطالة وزيادة إنتاجية الفرد ما يسهم في تحقيق هدف تخفيض الفقر وتحسين مستوى المعيشة، الأمر الذي يحتاج إلى المعارف والتدريب النوعي على معطيات الاقتصاد المعرفي ووسائله، والتأهيل وإعادة التأهيل وإعادة التدريب والتطوير المستمر للمهارات، وذلك لأن معطيات الاقتصاد المعرفي ووسائله تتميز بالتغيُّر السريع والمستمر، الأمر الذي يحتاج إلى المواكبة بالقدر نفسه من ديناميكية التغيير (Dynamic Change) وحيويته. وفي واقع الأمر، فإن الإرادة السياسية القوية لولاة الأمر في المملكة والجهد الكبير والإنفاق السخي الذي تبذله الدولة لمكافحة الفقر وتقليص تباين الدخل المكاني (بين المناطق الـ 13)، نسبياً، كان من الممكن أن يؤدى إلى أن تكون نسبة الفقر أقل مما هي عليه الآن والتباين الإقليمي أقل وطأة، ما يدل على أن المشكلة تكمن في الوسائل التقليدية المتبعة ومستوى التنفيذ على المستوى القاعدي, ولذلك فقد أولى خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ هذا الأمر أهمية بالغة.
ولا أدل على ذلك أكثر من حجم الإنفاق على التعليم خاصة التعليم العالي وعلى فاعلية هذا الإنفاق؛ أي أن الإنفاق على التعليم العالي باستحداث الجامعات وتوسيع فرص التعليم العالي في التخصصات المطلوبة بفاعلية أدى إلى تحسين كبير في مستويات الرفاهية في تلك المناطق. وهو ما يفيد بأن التوسع في التعليم العالي المطلوب كتخصصات بفاعلية وجودة عاليتين، أي بمعيار دولي، يعد برنامجاً تنموياً ناجحاً ليس فقط للبلاد ولا للمنطقة ولكن أيضاً نمواً نوعياً يحقق أهدافاً أبعد من التنمية المستدامة والتنافسية. وهذا ما يؤكده مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم العالي من إنشاء وتطوير الجامعات الإقليمية ليصبح عدد جامعات المملكة 31 جامعة بدلاً من سبع جامعات منها 27 جامعة حكومية وأربع جامعات أهلية، وليرتفع عدد الكليات من 76 كلية آنذاك إلى ما يزيد على 430 كلية حكومية وأهلية ليغطي التعليم الجامعي تقريباً مناطق المملكة ومحافظاتها كافة. ومن الثابت أن الجامعات والكليات ليست مرافق تعليمية فحسب، إنما هي أدوات تنموية شاملة في حد ذاتها ووسائل مهمة لغرس مفاهيم اقتصاد المعرفة في المجتمع وتنميته.
وبما أن كل تلك المفاهيم والأساليب التنموية المذكورة أعلاه تتداخل فيما بينها Overlapping ولا تتعارض في شيء، وإنما يركز كل واحد منها على أسلوب تنموي معيِّن، فيمكن الاستفادة منها جميعاً وفي وقت واحد، على أن يتوزع تنفيذ مهام كل منها عبر الآليات الآتية:
1 ـ أن تقوم وزارت المالية والاقتصاد والتخطيط والتعليم العالي والتربية والتعليم بتنفيذ مهام ومتطلبات التنمية المستدامة والتنمية النوعية، وأن تركز في توجيه الإنفاق العام الإضافي نحو تنمية الموارد البشرية وتطوير برامج تحسين جودتها وبخاصة تطوير مخرجات التعليم العام والتعليم العالي وإيصاله لكل مناطق ومحافظات الحبيبة, وهنا لا بد من التنويه إلى التطور الكبير الذي حققته وزارة التعليم العالي بدعم من وزارة المالية من خلال مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم العالي في أعداد وحجم الجامعات والتخصصات والبنية التحتية والتنظيمية للتعليم العالي للمملكة بما يتجاوز الرؤى المستقبلية لمشروع آفاق للتعليم العالي.
2 ـ أن تقوم وزارات الزراعة والصحة والصناعة والشؤون البلدية والقروية بالاهتمام بالجوانب البيئية المتعلقة بالتنمية المستدامة والتنمية النوعية.
3 ـ أن تقوم الهيئة العليا للاستثمار بمهام ومتطلبات التنافسية، ليس فقط بين المملكة والدول الأخرى فحسب، ولكن أيضاً لمناطق المملكة وقطاعاتها الاقتصادية المختلفة. وهنا لا بد من التنويه والإشارة إلى ما بدأت به هيئة الاستثمار من تشييد عدد من المدن الاقتصادية في مناطق نائية من المملكة, والأمل في مضاعفة العمل وتنويع المشاريع بمشاركة مستثمرين محليين وأجانب والإسراع في تنفيذ هذه المدن الاقتصادية.
ولا يعني ذلك أن المملكة لم تطرق بعد أبواب التنمية المستدامة والتنافسية واقتصاد المعرفة وما إلى ذلك، بل إن خطط التنمية تشتمل عليها جميعاً. كما أن هناك عديدا من البحوث والدراسات التي أجريت في هذه المجالات، غير أننا أردنا التنويه والتركيز وخاصة فيما يتعلق بالآليات، وذلك لأن التخصص وتقسيم العمل أفضل من عدمه، لأنه لا يعني التركيز والتخصص وسرعة الإنجاز فحسب، وإنما يعني المقدرة على المحاسبة Accountability، مع ضرورة التنسيق بين كل الآليات المذكورة أعلاه. وذلك لأن عدم التنسيق قد يؤدي إلى التواكل وتكرار البرامج والمشاريع التنفيذية ويزيد التكاليف بلا طائل.