القيادات العربية الإعلامية وزمام المبادرة
هل بناء الإنسان علميا ومعرفيا وفكريا وعمليا، وإثراء تجربته بما يؤدي إلى تقدم الوطن وتنميته حضاريا، هو الأولى أم الاتجاه إلى العمران، والإنشاءات المتنوعة؟
هل تقاس الأمم بمدى تقدمها ومعرفتها الإنسانية أم بمبانيها، وشوارعها، وحدائقها، ومصانعها، ومنشآتها؟ أيهما يشكل عنوان التقدم؟ وهل هما مرتبطان ببعضهما بعضا؟
استهل كتابتي هنا بهذه الأسئلة عطفا على ما أشار إليه الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة وزير الثقافة والإعلام في كلمته في المؤتمر الدولي للأمن الثقافي العربي، حيث رأى أن البلدان التي تحررت من الاستعمار ما زالت تبحث عن موقع لها في الخريطة الدولية، وأن تلك البلدان وقعت في فخ تصور سهل للتنمية حين قيست بارتفاع متوسط دخل الفرد من جهة، والتصنيع من جهة ثانية، فالنظر إلى التنمية التي لا تتجاوز ارتفاع متوسط الدخل والتصنيع وإغفال جوانب أخرى مؤثرة كالتربية والحريات والحقوق والثقافة كان ذا أثر سلبي في تلك البلدان».
أقول: من الجميل أن نجد الهم والقلق لدى المسؤول عن الثقافة والإعلام، والأجمل لو أننا نجد هذا الهم يفرز سعيا دؤوبا وشراكات ثقافية، وحوافز للعاملين، وتأهيلا لقيادات إعلامية تستطيع صياغة العقل العربي وفق مقدراته الثقافية والتراثية، وتفاعلا إيجابيا مع المعطيات المعاصرة دون عزل لإيجابيات تلك المعطيات، كما أن من المهم تجديد الثقة بالمنجز العربي والموروث العربي وتشكيله وفق صيغ معاصرة، فالإنسان العربي اليوم لا يفخر بآدابه وتاريخه أو تراثه، ولا بتقاليده وفنونه، فقد أصبح غير واثق تماما بما يكتنز من تراث أو حضارات قديمة، وأصبح يقف مذهولا أمام ثقافة الآخر الغربي التي تملكته بقوة التأثير الإعلامي وليس بعمق المنجز.
لقد غيب الإعلام العربي بكل وسائطه، خاصة الإعلام المرئي، والقنوات الفضائية الثقافة، وأمعن في تقديم الفنون الاستهلاكية الترفيهية التي لا تؤثر في الذهن، والتي تغيب العقل والفكر، وتقضي على الطبيعة الفطرية للإنسان العربي في الابتكار والتجديد، واتجه الإعلام العربي إلى تقديم نمط متكرر من صور نمطية غربية مستهلكة، في برامج المسابقات والمنوعات وحفلات الأغاني والفيديو كليب، فهل هذا كل ما نملكه في عصرنا الراهن، هل وحدهم المشتغلون بمجال الفن والغناء هم النموذج الأسمى الذي نقدمه للمشاهد، خاصة من فئة الشباب والأطفال، هل هذه البرامج هي التي تصنع المستقبل، والبناء، وتصنع الثقافة المتطورة أو تلك المستلهمة من تراثنا وتقاليدنا؟
لقد أصبحت ذهنيتنا الإعلامية ذهنية تابعة، تقدم الاستهلاكي بدلا من الأصيل، والسطحي بدلا من الغالي الرصين، والهابط بدلا من السامي الجليل. ذهنية أعادت لعصر الاستعمار صورته بشكل آخر، صورة التابع والمتبوع، وهي صورة لا تجدي أبدا في تقديم نموذج ثقافي عربي نقي ومتفرد.
إن الإعلام اليوم بات من الأهمية بمكان، حيث أصبح المؤثر الأول تقريبا في توجهات الأجيال الجديدة وفي اختياراتهم، وهو من يستطيع أن يصنع الشخصية الوطنية، وهو من يتسنى له أن يرسم ملامح الثقافة، فهل الإعلام الفضائي لدينا مؤهل لهذه المهمة.
إن الطريق شاق، والعمل من أجل هذا الهدف يتطلب استراتيجيات مبهرة تشمل الأساليب والكفاءات ومساحات من الحرية الثقافية والإعلامية التي ستؤدي إلى إبداع متميز خارج الروتين، وخارج الكسل الذهني الرتيب، والأداء اليومي المكرور.. فهل تنهض القيادات الإعلامية العربية من كبوتها وتأخذ بزمام المبادرة في بناء الثقافة العربية عبر وسائطها المتعددة؟
إن الاستعمار الثقافي لن يهزم بالجيوش ولا بالخطابات ولا بالشكوى. إن العمل الجاد ورسم الاستراتيجيات العربية الموحدة وأخذ مساحة وافية كافية في الفضاء سيقود حتما إلى رسم ملامح الثقافة العربية وصقل العقل العربي، وإعادته إلى المنافسة على الحضور أو الاقتراب من الصدارة.