المختصون فقط من يحدّدون سلامة وجدوى محطات الطاقة الذرية
بعد أن استطرد كثير من الإخوة الكتاب من خلال الصحافة وصبوا جل اهتمامهم في الإشادة بالقرار التاريخي لإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، وأخذ بعض منهم يلوح بأهمية دراسة مشروع إنشاء المفاعلات النووية المعنية به المدينة بشكل أعمق من الناحية الاقتصادية، وآخرون تخوفوا وشككوا من سلامتها وتكلفتها المتزايدة وتأخر البدء في تشغيل بعض منها في أوروبا وأمريكا والهند، مضافا إلى تبرير توجه الحكومة الألمانية ونداءاتها في التخلص مما لديها من مفاعلات قديمة واستبدالها بالطاقة المتجددة دعما لرؤيتهم، وذلك وفقا لبعض المقالات التي خرجت في الصحافة الغربية، لا يسعني هنا إلا أن أقول لغير المتخصصين في المجال النووي وسلامة وتقنيات ومهندسي المواد ومعالجاتها، والبعيدين عن سلك المشاريع وبناء الوحدات الصناعية مجملا، ألا يستعرضوا رؤاهم بتعجل من خلال فهم قاصر يستمد شواهده على معطيات عامة إعلامية وليست دقيقة ومتعمقة، مليئة بصرخات مدوية مضمونها التشويش بالاستنزاف في التكلفة الإنشائية واستغلال الآخرين لمقدراتنا الاقتصادية في مشاريع غير مجدية، فالكثير من التبريرات الحقيقية المخفية يمكن استقراؤها من بين السطور، وتعتمد على أسباب إدارية أو تكتيكية ومرحلية اقتصادية وليست بالضرورة هندسية وتصميمية.
فالعالم في السنوات الأخيرة مر بأزمات اقتصادية وارتفاع مطرد ومتسارع في أسعار الوقود البترولي، وازدياد ملحوظ في تكلفة التأمين والنقل، مضافا إلى تأخر نقل المعدات والمواد لوعورة الوصول إلى بعض المناطق التي يتم فيها الإنشاء من جراء بعد الموانئ، وكذلك ما يعزو من صرامة القوانين المُنظِّمة والمُقيِّدة لنقل المواد المشعة بين المدن في الدول، أو ناتج لعدم كفاية ودقة مقاولي التنفيذ أو ما يواجهونه من تعثر قبيل الأزمة الاقتصادية، وقد يصل الأمر إلى مواضيع أخرى حساسة تقنية أو سياسية تكمن في الخوف من تسرب لمعلومات هندسية وعلمية لا يراد الكشف عنها، إلى ما يجري من اعتراضات متجددة للمنظمات الحقوقية والسكانية، وما يدور أيضا داخل البرلمانات المتغيرة ومن الحكومات المتعاقبة، كذلك وفقا للدراسات التي تستمد الدول في توجهاتها التنموية إليها، في اعتمادها على مقارنات وإحصاءات تحليلية بين الناتج المحلي الإجمالي إلى معدل النمو السنوي المركب للدول، والتي لها من التأثير الكبير في القرار الاقتصادي والاستثماري البعيد المدى.
والحديث عن رغبة ألمانيا ونواياها وغيرها في التخلص من مفاعلات إنتاج الطاقة النووية القديمة، وتفنيدا لما يراه البعض في رفع شعار الخوف من الخطوة التي اتخذتها المملكة، إنما نقول لهم بتحليل منطقي، إن القرار يستند في مجمله إلى تقادم وضعف واستنزاف مالي كبير يصعب على أساسه إعادة تهيئة المفاعلات من جديد، نظير التقنيات القديمة المستخدمة وتناقص أعمارها التشغيلية بشكل يزيد من المخاطر من ناحية المواد المعدنية والأسمنتية المستخدمة، ولصعوبة أيضا إحلال المنشآت الجديدة الآمنة محلها لافتقار بعض الدول إلى مواقع جديدة مناسبة لصغر المساحة والنمو السكاني، وهو ما يعيه كثير من المحللين والمهندسين المتخصصين في الهندسة القيمية والصناعية، وليس الآخرين من غيرهم وفقا لتحليلات سطحية.
والتحديات التي تبرز وتخرج في قطاع الإنشاءات والتشغيل النووي، لا توحي لمشكلة مستعصية وكبرى بالنسبة لبناء منشآت حديثة، فإنما المشكلة تحددها الظروف والسياسات والاعتراضات والمتغيرات البيئية أيضا، فقد يُنظر لها من منظور آخر مستقبلي يلمسه علماء البيئة والجيولوجيون؛ أن الاحتباس الحراري وذوبان الجليد وحركة المياه والرياح المترتبة على الكون، قد تكون نواة استثمار مهمة لإنتاج الطاقة المتجددة، ومدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة لم تغفل هذا الجانب الحيوي ضمن سياستها البحثية والعلمية المعلنة، لهذا ينادي كثير من العلماء والباحثين لاستثمارات أكبر في الطاقة المتجددة، ولم يستثنوا الاستمرار في أبحاث الطاقة الذرية السلمية الآمنة، والمملكة حين اتخذت القرار، فهي بلا شك على علم بما يحدث، وستظل تراقب الوضع العالمي والتطورات قبل المضي في خطوات مقبلة، فبرامج المدينة المخطط لها تعد من حيث الوضوح والرؤى، برامج تكاملية تهدف لنقل وتطوير التقنية وإنعاش مراكز أبحاث الجامعات السعودية لتحريك العقول المهيأة الوطنية للإبداع، واستثمار بعيد المدى للحصول على طاقة مستدامة سواء ذرية أو متجددة.
فأما من يريد أن يتجول داخل منشآت الطاقة النووية بمعية متخصصين في المجال، أو يبحث عن ماهية تجهيز الوقود النووي وتكوين وصناعة المواد المستخدمة من ناحية السلامة والحماية، فهو السبيل الوحيد الذي من خلاله يستطيع أن يحدد إن كانت خطوة الدخول في هذا المجال خطوة صائبة أم خاطئة، لأن الأمر لم يعد من القضايا التي يمكن المراوغة فيها مع وجود خبراء من كل التخصصات، والمملكة ليست قاصرة، بل تملك من الخبرات التي تمكنها في كشف الأخطاء والبحث عن المسببات، فالوقود النووي ليس إلا عبارة عن مواد معدنية أسطوانية صغيرة الشكل على هيئة حبات الرصاص، يتم تصنيعها وبلورتها من اليورانيوم والبلوتونيوم مع الكاربايد، توضع في أنابيب معدنية خاصة مقاومة ومتجاورة وملتفة في مجموعات يتم ضخ غاز الهليوم الخامل لمنع التأكسد الناتج من انطلاق الأوكسجين المتواجد في تلك الحبات من فعل الحرارة، الذي يجب أن يكون بنسب منخفضة يتم التأكد منها قبل استقطابها وقبولها، حفاظا على المعادن المحيطة ولإطالة عمر المواد وحمايتها من التآكل، أما بقية التجهيزات فهي تتمحور في وجود حاويات ومبادلات حرارية معدنية وأخرى خرسانية، وبالتأكيد تحوي معدات تشغيلية ميكانيكية وكهربائية وإلكترونية لا تختلف كثيرا عن المنشآت الصناعية، إلا من ناحية الدقة والرقابة اللامتناهية والاختيار السليم للمواد العالية الكفاءة والمتانة المبني على الأبحاث العلمية والتجارب المخبرية والفحص الدقيق لكل قطعة، مما يزيد من وقت الإنشاء والتركيب والتشغيل، وتركيزا أدق يضاف إلى المعالجات المائية والتبريد والتي تكمن في تلوث الجزء المحصور في كبسولة المفاعل منها بالإشعاعات دون المياه والأبخرة الأخرى المشغلة للتوربينات والعمليات الأخرى، والتي بالطبع يتم التصرف بها وفقا لحسابات وعمليات مخصصة ومدروسة يدخل الجانب الاختياري الأمثل لمواقع المفاعلات طرفا أساسيا من أجل السلامة والحماية.
وكما أن جودة ودقة الاختيار المبنية على الخبرة العملية التي تحدث في الحصول على تقنيات ورخص تصنيعية لمواد كيماوية مثلا من مالكين للعلامة، فإنه تتبلور نتائج ونجاح الاختيار وفقا للفرز والفحص للإيجابيات والسلبيات، كذلك ينطبق الأمر على اختيار نوعيات المفاعلات النووية المستخدمة للمياه والمتمركزة على نوعين مع الحيطة في استخدام وشراء المواد المعدنية والتشغيلية والرقابية والوقود النووي العاليين الكفاءة ومن مصادر موثوقة واعتمادية في الإنتاج؛ أحدهما وهو الأكثر استخداما وشيوعا في الغرب والمسمى بمفاعل المياه العالية الضغط Pressurized water reactors PWRs، والنوع الآخر المسمى بمفاعل المياه المغلية والتي أخرجته في الخمسينيات جنرال إلكتريك وما زالت تعنى بتطويره Boiling water reactorsBWRs .