هل يمكن للإحصاءات أن تقلص هدر الطاقات؟
الحفاظ على الطاقة والمصادر المائية الطبيعية للحياة على الأرض؛ هو محور حديث الساحة العالمية هذا الزمان، وقد أصبحت الطاقة علامة سياسية واقتصادية وإدارية فارقة بين الدول ولكثير من المنشآت الكبيرة العالمية، وذلك من خلال وضعها ضمن المواضيع الأساسية العليا (Themes)، التي يتم تقييم الإنجازات السنوية عليها، ونذكر من تلك المواضيع البيئة والمسؤولية الاجتماعية والإحلال الوظيفي ونقل التقنية والأبحاث وبراءات الاختراع كأمثلة، وتختلف نوعية وأهداف تلك المواضيع من منشأة إلى أخرى، إلاَّ أن الطاقة تبقى حاضرة لدى الجميع، لأهمية تقليص الهدر المصاحب لاستخدامها، فهذا الهدر الشره الذي يحدث في مصادر الطاقة بجميع أنواعها وخاصة الهدر البشري الذي قد يغيب عن البعض، وهو موضوع حديثنا هنا، لا يستوعبه ولا يفهمه أسفا كثير من العامة وحتى بعض القياديين والتنفيذيين الجدد حديثي السن والتجربة، والذين استشرى وجودهم ونفوذهم بكثرة هذه الأيام، وهو يمثل الهتك والصدع والتضعضع في قوة الاقتصاد الوطني والنمو، وكثير من تلك المنشآت لا تعير هذا الهدر البشري انتباها دقيقا، إما لغفلة أو تجاهل من منتسبيهم وفقا لرؤية قاصرة بعيدة عن روح الولاء والانتماء، لأن الواقع الذي تعيشه الساحة العملية يزخر بتناقضات كثيرة، تعلو فيه أصوات ونداءات بالحفاظ على الطاقة الأحفورية والمصادر الطبيعية لحياة أجيالنا ولحماية بيئتنا من التلوث والاحتباس الحراري من جانب، ويتم في الوقت نفسه هدر وتجميد وتهميش كثير من الطاقات والكفايات البشرية من جانب آخر، وما يقابله من توجه مفترض إيجابي تصحيحي، ألا وهو تحريك وإعادة شحن العقول البشرية من جديد لتصبح حية نابضة؛ فعليه ستزخر حياتنا وسينمو ويتقدم مجتمعنا، ومن الطبيعي سيكون حضورهم النشط والتفاعلي المتطور المستمر، له من التأثير المباشر والحيوي في قدرة الوطن في صياغة وصناعة تغيير في أسلوب الحياة العملية الهامدة الراكدة إلى المنتجة الإبداعية.
إن الفترة الزمنية العملية التي مضت من حياتي ومازلت أعيش غمارها مع غيري من المنضوين تحت مظلة العمل والإدارة، وبحكم أنني كنت مقررا سابقا للجنة عمالية أيضا، فهي تعد بحق مسيرة استكشاف عملية عميقة خضتها، تجلت فيها استقراءات ورؤى كثيرة، وأشد وأسوأ ما استنتجه منها فيما يهز كيان الإبداع ويطمس الطاقات ويدفنها، وهو أمر مألوف ولا يخفى على الجميع، يكمن في عدم استشعار أو تجاهل بعض القياديين أسباب استنزاف وتشتت نشاط المبدعين وهروبهم أو تقاعدهم المبكر، الذي ينطبق عليهم المثل "كلما ازدادت ثقافة المرء .. ازداد بؤسه"، لأعتبرها فرصة جيدة لتوجيه درس عملي تجريبي، ليستفيد منه المجتمع ومحبو التغيير إن ارتأوا لأنفسهم الخلاص من عتمة الجهل وعقدة التصغير، فعلى كل مجتهد يئن ويتألم من الإهمال والتهميش والتشطير أن يتعلم كيف يصنع من نفسه إنسانا قادرا على الصمود والعطاء متوكلا على العلي القدير، باتجاه عدم التقهقر، والبقاء على الصبر والجد والاجتهاد في اجتياز عنق الزجاجة والخروج من القمقم وتخطي مرحلة التحقير، لا من ناحية العبرة العابرة فقط..! لأن الوضع الإداري أشبه بالسياسة التغريبية الداخلية!!! التي تنهش في قوى المجتمع، والأهم في الأمر؛ هو الحاجة الماسة لعمل نموذج إحصائي تمحيصي ورقابي خاص بهذه السياسة، لاستقراء مدى الهدر للطاقات البشرية الآفلة في عموم القطاعات، مع وجود الكم الهائل بالملايين من العمالة الأجنبية الجادة منها والسائبة، والجاثمة على صدورنا والقادمة الأخرى إلينا لتزاحمنا في أرزاقنا بلا استحياء ولا تبرير منطقي مقبول في الطريق، واستشراف النتائج الوخيمة السلبية أيضا، التي تفرزه نحو زعزعة النمو والتقدم وزيادة البطالة والجريمة.
ومن المقلق الذي يستدعي وقفة تأمل للتصحيح، النتاج المؤسف لتواتر الأحداث المؤلمة وعدم التحرك لتغييرها بسرعة وبجدية بما يخص الأوضاع العمالية والإنسانية والاجتماعية على حد سواء، كما حدث مسبقا وما زال بوتيرة مغايرة ومتأرجحة من لغط ووهج حراري وانفعالات ونداءات تائهة، في خضم الركود الاقتصادي والانهيارات تلو الأُخَر في سوق الأسهم، والهجوم العنيف على وزارة التجارة وهيئة السوق المالية والأمانات وغيرها من قبل الشارع الاجتماعي، الذي أثقلته الديون والتداعيات المالية وارتفاع الأسعار والعقار والحديد والأسهم الجوفاء الخالية، بل لم ألحظ حسب علمي السطحي واطلاعي ظهور إحصائيات منظمة ومسوح متخصصة متعمقة ومعنية بالوضع المتأزم المعيشي والصحي والنفسي المترتب عليه، تعطي تصورا يوضح الاهتمام لتهدئة السخط في الشارع الاجتماعي، وما ينتابه من حالات تخرج عن السياق الطبيعي للحياة المتزنة، ولم ألمس بجلاء أيضا تدخل وزارة التخطيط ممثلة في مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات في قلب الحدث بالصورة التي نعتقد نحن العامة أن تظهر به في أزمات حالكة كهذه التي أحرقت اليابس والأخضر.
ونظرا لوجود ممثلين ومواقع للمصلحة في الوزارات التي تحتاج إلى معلومات وأرقام من خلالهم كما هو مدرج في لوائحها، فربما كان عليها أن تُظهِر جانبا معلنا من المرونة لتساعد وتدعم الوزارات والقطاعات الأخرى على خروج مثل تلك المسوح المطلوبة المتخصصة بالأزمات للتهدئة ودفع الآمال نحو القبول لاحقا بالتحسن والتغيير، ومن أجل التنوير أيضا والاحتراز ضد الأسوأ وخاصة بالنسبة للمواطن البسيط، فهي تملك من الإمكانات والخبرة الطويلة المفترضة للتنوع الإحصائي، مما يجعلها ويشجعها أن تخرج من عزلتها الإعلامية ونطاق ما درجت عليه منذ سنين عدة، لخلق مجال تطويري وإبداعي تنافسي وتشجيعي للباحثين في أي قطاع عملي وعلمي.
المطلع على موقع المصلحة في الشبكة العنكبوتية سيندهش كثيرا بالكم الكبير من المعلومات الذي يحويه، ونحن إذ نطرح بعض التساؤلات هنا ليس انتقاصا لما تصنعه وتنتجه من أعمال كبيرة وجليلة، بل من أجل التحليل الهادف وفقا لما هو في الموقع وما يتم تداوله في الإعلام، وخلافه إن لم يكن موجودل في الموقعين، فلن يستساغ اجتماعيا ولا عولميا ولا إعلاميا كتبرير وتفنيد لما نقوله، ويمكن أيضا تقييم الموقع حسب الانجذاب إلى قيمة المعلومات التي يحتويه بالنسبة إلى المتجول فيه بما ينسجم مع تطلعاته ورؤاه، من حيث غلبة ثبوت وجمود النمطية المتبعة في التقارير المرصودة والمتكررة على نهج موحد لا يتغير كثيرا بالنسبة للمطلع من العامة، فتقاريرها موجهة لطبقات عليا نحو الاستراتيجيات والدراسات المستقبلية للمختصين والنخب وصناع القرار، وهي ضرورية ومهمة ولا يمكن الاستغناء عنها وهي من صميم العمل المؤسساتي والأعمدة التي تستند إليها الدول، لكن الإنسان العادي لا يَعُدُّها بالمهمة لأنه لن يفهمها ولا يعرف كيفية تجميعها وإبرازها بتلك الصورة، وهي لا تلمس وتدغدغ وتتحسس مشاعره وأوضاعه المعيشية، كمطلب حيوي هدفه تزويد الساحة الاجتماعية والأوضاع الحياتية بمعلومات إحصائية تنزل لجميع المستويات، فنحن لا نتذكر المصلحة إلا في الإحصاء والتعداد السكاني الذي يعد من أهم الإنجازات للخروج بتصورات حقيقية نحو التخطيط الاستراتيجي الاقتصادي والسياسي والتطويري، والتي يجب أن تؤثر تأثيرا ملموسا في الوضع برمته، من بطالة واقتصاد وصحة وأمن وجرائم وكثير من الأمور المتعلقة الأخرى، في صياغة استراتيجيات تطويرية وتصحيحية مستقبلية.فمن جانب ضبابي يخربش ويشوش الرؤية أمامنا ويجعلنا نتصور النتائج الإحصائية بمفاهيم متعددة؛ إما أنه لا يتم الاهتمام بها ولا يُنظر لها بجدية من قبل القطاعات المرتبطة في المسوح، ودلائل ذلك تكمن في البيروقراطية وتعثر التطور والتغيير والتحرك البطيء الذي يعلمه الجميع، أو أنه لا يوجد وعي وإعلام مرَكَّز توعوي لأهمية التقارير والاستفادة منها واستثمارها، أو أن الأنظمة لدى المصلحة لا تخولها الخوض في طرح وتقييم المعايير الرقابية في داخل القطاعات المرتبطة بها وتطويرها وتحديثها لكيلا تتعارض وديوان المراقبة، والتي أعتقد أنهما أي المصلحة وديوان المراقبة مكملان وداعمان ومستفيدان من بعض. ما يهم المجتمع هو أن يرى نتاجا ملموسا للتقارير واضحة بمقارنات معيارية تتضح فيها الفروق سواء الإيجابية أو السلبية، وليس فقط مؤشرات انخفاض وارتفاع دون وجود مؤشرات لأدوات مشتركة بين جميع القطاعات، متفرعة ومتعمقة في الوضع الإداري والتنظيمي والخدمي والتطويري والإبداعي للقطاعات المؤثرة، التي من خلالها تستطيع أن تستكشف مكامن الفروق والفجوات والخلل وتمهد الطريق للتنافس بينهم نحو الأفضل.
ومن نوادر الإحصاءات والاستطلاعات التي تظهر ويتعجب لها الإنسان نتيجة للمساحة الواسعة من الثقة والاحترام والصلاحيات التي تُعطى من خلال مرونة الأنظمة، في تشجيعها للمنافسة والإبداع المعرفي والفكري وإطلاق العنان لتحريك الأذهان، في محاولة لتغطية كثير من المواضيع التي تهم شرائح المجتمع بكل مستوياته، بغض النظر عن كون الدراسة في منظورها العام متدنية أو تافهة أو عالية، هو موضوع خروج مسح تأثير الركود الاقتصادي في الأسر البريطانية من ناحية تحسس وتلمس زيادة الاهتمام والعناية في داخلها من قبل الآباء جراء قياس زيادة الخصوبة والإنجاب في بريطانيا، نتيجة العزوف عن الصرف والبقاء في البيوت فترات أكثر، مستقاة من تقارير مبيعات الصيدليات والمراكز الغذائية لأغراض الخصوبة والحمل والإنجاب، فهي دليل على الوعي والنضج في التعاون الاجتماعي الذي يخدم الجميع ويسير بدفة العطاء والازدهار وحماية الثروات والمقدرات إلى مواقع متقدمة، تراها غائبة في المجتمعات المتأخرة المبتلاة بالأنانية وحب الذات وعدم الانصياع للمحذورات والتوصيات والتشريعات التي تخدمهم وهم غافلون. في نهاية حديثنا هذا؛ يا حبذا لو تنحو مصلحة الإحصاءات ووزارة التخطيط طريقا تفاعليا ممهدا للخروج من عنق الزجاجة، الخانق للتطوير والقابع بعقولنا في حلقة مفرغة من التدوير، وتترك عقولنا تنطلق نحو آفاق واسعة من العمل الجماعي، في إنشاء نادٍ للإحصاء مرتبط بهما أو بالتعاون الحقيقي ودعم تفعيل الجمعية السعودية للعلوم الإحصائية الصادرة من مجلس جامعة الملك خالد منذ 1/3/1425هـ بالقرار رقم (3- 3-1424/1425هـ) بشكل يرقى للتطلعات الداخلية والخارجية، من حيث الاستفادة من الأبحاث والعلوم والمنظمات الإحصائية الرائدة في الخارج، يكون النادي أو الجمعية مفتوحا للمتطوعين، ولأي منهما مواقع في الوزارات والمستشفيات والأماكن العامة والأسواق، مدعومة بشاشات إحصائية متجددة لمؤشرات مختلفة تخدم الشرائح كلها، تتبنى أطروحات وتقدم جوائز تنافسية للأفكار والاستطلاعات، هدفها الإثراء المعرفي وتعزيز التفاعل الاجتماعي من خلال الممارسة والتعود والاندماج في الحس الإعلامي التوعوي بين أفراد المجتمع.