لجان التحقيق الإسرائيلية.. صيغة تجميلية للقبح السياسي والعسكري
في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973، شكّلت إسرائيل لجنة ''أجرانات'' للتحقيق في عدة أمور، على رأسها:
ـــ سر مفاجأة الإسرائيليين والعبور إلى شرق القنال دون تنبّه من الاستخبارات.
ـــ سبب تأخر التعبئة الإسرائيلية، مما كلف إسرائيل خسائر في الأرواح.
ـــ موقف وموقع القادة العسكريين وقتئذ أثناء العبور المصري.
ومن أبرز من مَثل للتحقيق دافيد أليعازر ـــ رئيس الأركان وزيرا ـــ مدير المخابرات، وجونين وجافيتش ـــ قادة الإسرائيليين في سيناء، ورئيسة الوزراء ـــ جولدا مائير... إلخ.
استمرت اللجنة شهورا طويلة تعمل وتبحث وتنقب وخرجت بنتائج كثيرة نشرتها، إلى جانب المصاحبة الإعلامية الكثيفة التي واكبت تحركات اللجنة ورصدت إنجازاتها أولا بأول.
أدانت اللجنة بعضهم وبرّأت بعضهم، لكن الأهم هو إخراج صورة لإسرائيل قوامها:
ـــ الديمقراطية الشفافة بحيث لا يوجد من هو فوق القانون.
ـــ أن الهزيمة كانت عابرة والدولة قوية وقادرة على تخطيها.
ـــ أن العسكريين ـــ مهما تعاظم شأنهم ولمع اسمهم ـــ فهم مجرد موظفين لهم مهام محدودة وليسوا حكاما بأمرهم ينبغي إخفاء خطاياهم.
استمرأت إسرائيل اللعبة، فإذا بها إزاء الضغوط العالمية ومطالبة الأمم المتحدة بإجراء تحقيق حول الاعتداء على السفينة التركية ''مرمرة'' وقتل تسعة من الأتراك على متنها؛ تقوم بتشكيل لجنة برئاسة القاضي يعقوب تيركل ـــ قاضي المحكمة العليا المتقاعد ـــ ومعه اثنان من المراقبين الأجانب ـــ لزوم الديكور الديمقراطي ـــ علما أن الصلاحيات المحدودة الممنوحة تجعل دورها هامشيا ثانويا.
تحقق اللجنة في ملابسات الهجوم الذي شنته إسرائيل على القافلة التي كانت تتكوّن من ست سفن وكانت تحاول توصيل المساعدات إلى غزة التي أحكمت إسرائيل حولها حصارا بحريا بهدف إزعاج ''حماس'' والضغط على أهالي غزة الذين يعتمدون في حياتهم على المعونات الخارجية. ونظرا إلى أن التحقيق بأكمله لعبة تجميلية محضة لا قيمة لها إلا في إبراز صورة حضارية لمن يتبعون سياسات غاشمة وقسوة عارمة، فقد أعلن الجيش الإسرائيلي أن تحقيقاته المنفصلة أسفرت عن اكتشاف أخطاء في التخطيط للهجوم وبعض المبالغة في رد الفعل، مع الإصرار على الدفاع عن استخدام القوة. واستمعت لجنة تيركل إلى أسطوانات مكررة عن قيام الأتراك ببدء القتال واستخدام العصي والمدى والمسدسات في التعامل مع الإسرائيليين، ما اضطر هؤلاء إلى استخدام المدافع الآلية فقتلوا من قتلوا وأصابوا من أصابوا.
كان الشاهد الأول هو رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والشاهد الثاني إيهود باراك. وأصرّ الاثنان على القول بأن الحصار الإسرائيلي يرمي إلى منع وصول صواريخ إيرانية إلى الفلسطينيين ستستخدمها حماس ضد ''المدنيين الإسرائيليين''. وأضاف نتنياهو أن إسرائيل تصرّفت طبقا للقانون الدولي. أما باراك فقد أصرّ على أنه المسؤول الأول، حيث إن نتنياهو عهد إليه التصرف بالملف برمته، لأن رئيس الوزراء كان مرتبطا بزيارة لكندا ثم الولايات المتحدة. وقال إنه تصرف بدافع من مسؤولياته ولم يكن من الممكن السكوت على هجوم ضد جيش الدفاع!
الجانب التهريجي في هذه اللجان يتصاعد، إذ تتدخل تسيفي ليفني رئيس حزب كاديما وتتهم نتنياهو بأنه يلقي بالمسؤولية على آخرين، وقالت ليفني إن تصرف نتنياهو بالسفر وترك الموضوع لباراك يدخل تحت قائمة الإهمال. وهكذا يتم استغلال اللجنة لبث صورة عن الحياة السياسية الإسرائيلية، وإظهار إسرائيل للعالم في الصور التالية:
ـــ أنها ضحية دائمة للعدوان.
ـــ أنها يقظة ومصرّة على الدفاع عن نفسها - وهذه صورة مهمة في الغرب.
ـــ أن زعماءها دائما أبدا يقعون تحت سيف المسؤولية.
ـــ أن القانون يأخذ مجراه من خلال القضاة مثل أجرانات وتيركل.
من هنا نعود إلى لعبة العلاقات العامة التي تصرّ عليها إسرائيل، وكانت تخدع الجميع في الماضي، أما الآن فإن الجانب المهم، وهو قتل أبرياء، هو الذي يطفو إلى السطح، ولو لاحظنا المداولات والتحقيقات سنلمح تغاضيا واضحا عن تجسيم وتعظيم الجريمة، وإنما يتوجه التأكيد إلى ''الأدوار'' – من فعل ماذا؟ وأين كان الطرف المسؤول؟ ولا بد من الخروج بنتيجة نهائية مؤداها أن إسرائيل مهددة سلما وحربا، وأنها في حاجة إلى الدعم المعنوي قدر احتياجها إلى الدعم بالسلاح والتأييد السياسي. وهذا يفسر لنا الاهتمام الإعلامي الكبير بلجنة لن تقدم أو تؤخر، وإذا أدانت أي طرف فإنما هي إدانة سطحية يتم استغلالها كمبرر سياسي لفتح جسور جديدة مع تركيا أو اتخاذها بديلا للاعتذار العلني.
أما هجوم ليفني فهو تكرار لعادة إسرائيلية معروفة للجميع - أن تضيع الحقائق وسط الجدليات والمناقشات.
الطريف أن نتنياهو أصرّ على أن تتم شهادته أمام الكاميرا ووسائل الإعلام، فالرجل يدرك أنها مسرحية قبل كل شيء، ونصيب الإعلام فيها هو الأكبر، ولذلك ظل لساعة ونصف يترافع أمام اللجنة، حيث قرأ خطابا سابق الإعداد وبعده ارتجل عدة نقاط والإجابات عن بعض التساؤلات. كان التحقيق فرصة كبيرة لنتنياهو للهجوم على ''حماس'' وشرح سياسته تجاه الولايات المتحدة وتركيا ومصر. ولم يفت رئيس الوزراء أن يذكر أن ''حماس'' وعدت ''بمحو إسرائيل من الخريطة بفضل الأسلحة الإيرانية''.
وأخيرا اتضح السبب الأكبر لعقد المحاكمة عندما شن نتنياهو هجوما حادا على ''حماس''، حيث نسى الجميع أن اللجنة تعمل تحت مظلة مهمة محددة وهي التحقيق في قتل تسعة أتراك على سفينة مسالمة. بينما قال نتنياهو إن الذي يستحق العقوبات هو ''حماس'' التي فعلت ما يلي:
ـــ نادت بالإبادة الجماعية لإسرائيل!
ـــ وجّهت نيرانها للمدنيين.
ـــ استخدمت المدنيين كدروع بشرية.
ـــ منعت الصليب الأحمر الدولي من الوصول إلى شاليط.
وهكذا يتضح للجميع مغزى اللجان القانونية، التي لا تتجاوز كونها ساحة دعاية ومرافعة لتكريس أفكار قد تفتقر إلى مناسبات محددة وساحات بعينها للتعبير عنها. وإلى لجنة قادمة ـــ إن شاء الله.