تمرَّد البيئة

أصبحت تحذيرات علماء البيئة لدول العالم بأننا على وشك تدمير أنفسنا تماما بمواصلة الممارسات الهدامة كافة, التي تقضي على فرص الأجيال القادمة, بمثابة رسائل مكررة خالية من المضمون. وعندما تحل كارثة أو مصيبة نقف مؤقتا لنتأمل ثم تمضي الحياة على وتيرتها في صورة أشبه باصطياد حيوان من قطيعه ثم قتله، عندما ينظر أفراد القطيع بعضهم إلى بعض ثم يواصلون حياتهم.
جاءت حرائق روسيا لتروي لنا قصة وتحذرنا مما هو قادم، فعلى درجة 38 درجة مئوية شبت مئات الحرائق في وسط روسيا، حيث حزام القمح الروسي, وأدركت الحرارة كازاخستان وأوكرانيا, وكلها مستودعات قمح هائلة. والنتيجة تصاعد الحديث عن قصور شديد في تصدير القمح، ما يعني أن بلادا عديدة تعتمد على هذا القمح مهددة بالمجاعة. والمجاعة ظاهرة كانت تحدث كثيرا في بلاد عديدة، لكنها باتت أقل حدة مع قوة وسائل النقل والاتصالات، حيث يهب القادرون إلى نجدة المتضررين بسرعة غير مألوفة. لكن قلة المعروض وانتشار الكوارث والحرائق وارتفاع درجة الحرارة قد تؤدي إلى عواقب وخيمة.
وفي الإطار نفسه تزحزح جبل ثلجي عملاق في اتجاه كندا وأمريكا بفعل الاحتباس الحراري، وتحرك بمياهه العذبة التي تكفي استهلاك الولايات المتحدة لمدة عام كامل. والمثير للاهتمام في موضوع الجبل أنه قد يكون البداية في عمليات مماثلة، وعندئذ ستحدث مصائب كثيرة قد يكون منها غرق بعض المدن الساحلية المهمة التي تقع على بحار عريقة، وقد يكون منها ارتفاع درجة الحرارة بما يوقف الحياة في مناطق عديدة.
تتمثل غضبة البيئة في العواصف الجامحة والأعاصير المدمرة على غرار تلك التي وقعت في روسيا وقطعت الكهرباء عن منطقة ليننجراد بعد شهور طويلة من الجفاف وحملت معها الثلوج والصواعق (وتلك كارثة أخرى). ويكفي أن نعرف أن أكثر البيانات الروسية تفاؤلا تفيد بأن هناك 500 حريق ما زالت متأججة.
أما الهجمة البيئية على باكستان فقد تمثلت في أسوأ كارثة فيضانات تمر بها باكستان، وهي ضحية مزمنة لفيضانات نهري السند والكانج, لكن الفيضان هذه المرة جاء شرسا بحيث هدد الملايين بالموت لما يحدثه من تدمير البيوت والبنية التحتية، وأعلنت ''يونيسيف'' أن ما يقرب من أربعة ملايين طفل يتضررون من هذه الفيضانات، وأن الضحايا عامة بالآلاف.
ولم تسلم الصين من الهجمة, حيث عانت كارثة الانهيارات الطينية, خاصة في مدينة تشوتشو في شمال غرب الصين, التي حالت الأوحال دون الوصول إلى المناطق المنكوبة. ومات 36 شخصا واعتبر 23 في عداد المفقودين في إقليم كانسو ومات 1254 بسبب الانهيارات الأرضية في جوكو, ولا يزال 490 في عداد المفقودين.
ويبدو أن ثورة المياه اشتدت لتصيب فيتنام وإندونيسيا, حيث أصابت الفيضانات مناطق شاسعة في هذه البلاد، التي تعاني الزحام وضعف البنية التحتية. وهو ما يؤثر سلبا في دخول هذه الدول من السياحة, فضلا عما توجهه للزراعة من ضربات قاصمة.
هذه التقلبات حملت معها خسائر بالملايين وعذابا ودمارا لملايين البشر. والمحزن أن هذه المصائب عندما تقع لشعوب ودول أخرى، فإن العين والأذن تعودتا الأحداث التي تضخ على العالم ليل نهار، بحيث أصبحت الأهوال أمرا عاديا، وهو شيء مزعج, لأن عدم الاكتراث هو الذي يفاقم المشكلات . وقد يتساءل البعض: وماذا يمكن أن نفعل؟ الإجابة ببساطة هي اتخاذ أكثر الإجراءات الوقائية المتاحة للحيلولة دون وقوع خسائر هائلة. وقد أعجبني كثيرا النزعة لإدخال البيئة داخل منظومة الحياة اليومية، وهناك مثلا أغان للأطفال تقول ''علينا أن نحافظ على بيئتنا فهي بيئتنا، علينا أن نحرص على كل ما يحيط بنا لأن بيئتنا هي كل ما نملك .. ''.
ولا يمكن أن نغفل عن حقيقة أننا نمارس تلويث البيئة بكل الطرق، نلوث الهواء بالعادم, ونلوث الماء بسوء الصرف والتصرف في الأنهار والآبار والترع والينابيع, ونلوث اليابسة بسوء التعامل مع القمامة.
وما زال محبو البيئة يجدون ــ في جميع أنحاء العالم ــ معارضة حقيقية مزعجة من جانب الصناعة على سبيل المثال، والتلويح بأن البيئة النظيفة قد تعني مزيدا من البطالة، ومن المألوف جدا أن نقرأ عن هذا الصراع في وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
وإذا كنت قد تناولت قضية البيئة من ناحية الغضبة الشرسة التي تواجهنا بها بين فينة وأخرى ممثلة في العواصف والأعاصير والفيضانات والزلازل, وآخرها زلزال موريشيوس المدمر، إلا أن هناك ظاهرة جديرة بالتوقف، تلك هي قيام الدول المتقدمة بتصدير التلوث إلى الدول الأفقر. ولاحظت التوسع في مصر مثلا في صناعة السيراميك والأسمنت وغيرهما من مواد المعمار، وكانت إيطاليا رائدة في هذه الصناعات ونجحت في إيجاد موقع منتج لها في مصر، حتى تتجنب التلوث من جراء هذه الصناعات التي تعرف باسم ''الصناعات القذرة'', فإيطاليا, فرنسا, إسبانيا, وألمانيا تود أن تحافظ على هوائها نقيا نظيفا، ولا قيمة لما يحدث للدول النامية. ونحن نلفت انتباه دولنا إلى أن أي صناعة تتنافر مع البيئة النظيفة يجب إيقافها فورا أو اتخاذ إجراءات قوية حقيقة للحيلولة دون توغل أضرارها في قلب المجتمع.
وأختتم هذه الجولة مع البيئة باستنتاج مهم، وهو أن البيئة قضية كل كائن يعيش على كوكبنا, وعلى امتداد القرون الماضية كانت الدول تنقسم إلى معسكرات وإلى حلفاء وأعداء ويبدأ الصراع, الذي انتهى بانتهاء الحرب الباردة، وهيمنة الولايات المتحدة منفردة على مقادير العالم. غير أن هذا التطور يتواكب مع بروز مشكلات البيئية الملحة والعارمة، التي من خلالها نرى تحديات تفوق كل ما قرأناه وشهدناه وسمعناه عن الحروب الباردة والساخنة، والسبب ببساطة أنه لا توجد بقعة بمنأى عن الضرر والدمار .. فأفيقوا يا عباد الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي