إدارة المواقف وسط المدينة بين الحق العام والخاص

إحدى أهم المشكلات التي نعانيها هي مشكلة دوران السيارات في الشوارع بحثا عن موقف فتسبب ازدحامات بسبب دورانها المتكرر حول المبنى أو المربع نفسيهما. وهذا الدوران في حد ذاته هو أحد أكبر أسباب الازدحامات المرورية، خاصة وسط المدينة. وهو إزعاج وتضييع لوقت المواطن سواء الذي يدور أو الذي يدور. أو الذي يدور رأسه وعقله مع دوران تلك السيارات ودوران أو ضياع القانون الذي يعطيه حقه. فتجد بعض المحال التجارية أو المباني المكتبية وضعت سلاسل أو صبات لمنع الوقوف أمامها وجعلها خاصة لصاحب المبنى أو المحل.. فهل هناك قانون يسمح له بأخذ تلك المواقف أم أنها حق عام وملك للجميع ليقف فيها؟ بل تجد أحيانا رجال حراسة وأمن لمنع الوقوف أمام تلك المحال، بينما - حسب علمي - أن تلك الارتدادات حق عام للجميع، فهل يحق لصاحب المبنى أن يمنعنا من الوقوف؟ ومن يفصل بيننا ويعطينا الحكم في ذلك؟
من المعروف أن إدارة المواقف عبارة عامة تعني الاستعمال الأفضل لخدمات المواقف الحالية ويخفف من الوقوف غير النظامي على جوانب الطرق وأمام المحال؛ ما يضيق الطريق ويسبب اختناقات مرورية. كما أنها تكون أكثر تشجيعا لاستعمال النقل العام، الذي لا بد من التفكير في توفيره بطريقة فاعلة ومنظمة. والمواقف المجانية تساعد على استعمالها أكثر الوقت ومن دون لزوم؛ مما يضيع الفرصة لمحتاجين إلى الموقف فترات قليلة، وعندما يزيد الطلب على العرض في المواقف فإنها تسبب مشكلة الدوران المتعدد في المنطقة نفسها؛ ما يضاعف حجم المرور فيها ويسبب الاختناقات. وفي دراسات حديثة وجد أن دوران المركبات في منطقة محددة للبحث عن المواقف يضيف 30 إلى 40 في المائة من كثافة الحركة المرورية في المنطقة نفسها. وهناك تجارب ناجحة عدة لإدارة المواقف في بعض مدن الولايات المتحدة ودورها في الحد من قيادة المركبات الخاصة، فإلغاء المساعدات للموظفين للوقوف في المواقف العامة في مدينة لوس أنجلوس ساعد على تخفيض الاعتماد على المركبات الخاصة من 69 في المائة إلى 48 في المائة، وبذلك خف عددها في الطرق. وفي مدينة يوجين خف بمقدار 35 في المائة بعد أن تم رفع الرسوم لعدادات المواقف. وفكرة تحديد مدة الوقوف على جانب الطريق مع وضع عداد المواقف في مدينة رد وود أتاح الفرصة لمركبات عدة لاستعمالها، وبذلك تمكن أصحاب المتاجر الاستفادة من زيادة عدد المتسوقين.
من الواضح أننا لم نفكر بعد في موضوع إدارة المواقف والتخطيط لها والاستثمار فيها كمورد مالي يمكن الاستفاده منه، فتنظيم المواقف، خاصة مواقف مركبات الأجرة يساعد على تخليص المواطن من مزاحمة سيارات الأجرة له في كل مكان وما تسببه من حوادث وفوضى. وكلما نظمت مواقف لمركبات الأجرة بدلا من دورانها المتكرر في نقاط وساحات معينة وقريبة من مواقع الطلب عليها مثل الأسواق وحول الأحياء السكنية، خففت من دورانها المتكرر في الطرق. فالدوران المتكرر يضيف عبئا على حجم الحركة المرورية ويسبب الحوادث والتلوث. كما أنه يعتبر مضيعة للوقود وإجهادا للسائقين ويضايق من يحتاجون إلى الطرق أكثر. حيث نجد أحيانا أعدادا كبيرة منها ومن دون ركاب في مناطق الاختناقات.
أزمة المواقف في مدننا، خاصة وسط المدينة تكاد تصل إلى مرحلة الشلل المروري والانتظار لساعات وسط الطرق المسدودة؟ وقد تمتد لتشل حركتنا أحيانا داخل الأحياء السكنية جراء وجود بعض الهيئات الحكومية أو الخاصة والتجارية داخل الاحياء السكنية. وما تسببه تلك الجهات من مزاحمة لسكان الحي لتسد وتقفل حتى بوابات وكراجات المنازل وتمنع الساكنين من مزاولة أعمالهم والتأخر في مشاويرهم وارتباطاتهم. فمتى تكون لدينا أنظمة تمنع وتردع قيام بعض السفهاء بإيقاف سياراتهم في أشد المواقع ازدحاما وسط المدينة، ثم الركوب مع زميل لمشوار آخر غير مبالين بأنهم سببوا ازدحاما أو أخذ موقف لشخص قد يكون أحوج منه لذلك ''لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه''. وبذلك يضطر المحتاج إلى الموقف للدوران مرات عدة حول الموقع ويزيد من عدد السيارات التي تزاحم الطريق وتعطل الآخرين. أو قيام هؤلاء السفهاء بإيقاف سياراتهم في أقبية مواقف بعض العمائر ولمدة طويلة ومن دون اكتراث، بينما صاحب العمارة لا يستطيع سحبها أو مقاضاته! أو من يترك سيارته في أي شارع يراه ويسافر لأسابيع أو أشهر .. هل هناك قانون يمنع ذلك؟ ولماذا يسمح لبعض الجهات الحكومية والخاصة باختيار مواقع داخل الأحياء من دون توفير مواقف كافية لهم؛ ما يجعلهم يضايقون سكان الحي ويسدون منافذهم وأبوابهم؟ ولماذا لا يتم إلزام سيارات الأجرة والنقل العام للوقوف في مواقف خاصة لهم بدلا من الدوران المتكرر في الطرق وما يسببه من زيادة أعداد السيارات على الطرق وازدحامها، إضافة إلى زيادة احتمالات الحوادث والتلوث.
أزمة المواقف ليست جديدة على العالم ولا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، فعدم وجود المواقف أو شحها يجعل سائق السيارة يدور حول الموقع، وبذلك يسبب زيادة عدد السيارات داخل الطرق في تلك المنطقة. كما أن عدم تخصيص مواقع لمواقف الشاحنات أو الحافلات وفق طرق ومداخل واسعة تسمح بالدوران لها يساعد على سد وخنق الطرق. وهي أزمة مرت بها معظم مدن العالم وأوجد لها العشرات من الحلول، التي تبدأ أولا بالحلول التخطيطية العمرانية التي يجب أن تتحسب لمشكلة المواقف أثناء تخطيط واعتماد المخططات بتخصيص مساحات لمواقف السيارات بين المناطق التجارية والمكتبية حسب الكثافات وإعداد المواقف المتوقع الحاجة إليها. كما يتم عادة تصنيف المواقف التي تحتاج إليها المدينة من مواقف للسيارات الخاصة والأجرة والشاحنات والحافلات والدراجات. وتوضع لذلك خريطة واضحة لمواقع المواقف في المدينة وتكون مربوطة ومتكاملة مع حركة المرور والنقل. ولكل نوع تكون هناك مساحة كافية للحركة والدوران وتختلف مواقعها حسب استعمالات الأراضي للمدينة. وقد لا يخلو رصيف أي مدينة من لوحة تمنع أو تنظم وقت الوقوف وفق ألوان معينة على بردورة الرصيف، فاللون الأصفر يمنع الوقوف والأبيض يسمح والأحمر يمنع الوقوف أو الانتظار، خاصة أمام محبس لَي مضخة الحريق أو ممر سيارات الإسعاف. وتخصيص مواقع على الرصيف للشحن والتفريغ. ويمنع وقوف السيارات على الرصيف أكثر من 12 ساعة؛ لعدم عرقلة مرور سيارات تنظيف الطريق. ثم يتم وضع اشتراطات لكل مطور لتوفير مواقف سيارات لكل مساحة 50 أو 100م2 للمكاتب أو موقف لكل شقة. (ويوجد هذا التنظيم حاليا لدى الأمانات، لكن هناك تساهلا في تطبيقه). كما يتم اشتراط تخصيص مواقف لذوي الاحتياجات الخاصة وسيارات الأمن والدراجات. ويتم تحديد مواقف خاصة لسيارات الأجرة على أطراف الحي وقرب ساحات المساجد والأسواق تمنعها من الدوران داخل الأحياء أو الدوران في الطرق؛ ما يزاحم حركة السيارات والمرور.
وتنتهي الحلول العمرانية لتأتي الحلول القانونية والإدارية للمدينة بإيجاد ميكانيكيات للتحكم في مدة الوقوف مثل عدادات الوقوف بمبلغ معين (باستعمال بطاقة قابلة للتعبئة) لكل ساعة أو جزء منها، مع تحديد أقصى مدة للوقوف لإعطاء الآخرين فرصة. وبذلك لا يقف إلا من يضطر إلى ذلك وذلك يساعد على القضاء على ما يقوم به السفهاء من عدم احترام حقوق الآخرين ومضايقة أبوابهم وكراجاتهم أو أقبيتهم.
وكلما تكبر المدن تزداد ازدحاما ويزداد الطلب والحاجة إلى مواقف السيارات، خاصة داخل المدن لدرجة أن معظم المباني سيطلب منها زيادة عدد الأدوار تحت الأرض لتصل إلى ثلاثة أو أربعة أدوار (قبو) ويمكن استثمارها بتأجيرها، وهي فرصة للمطورين للتفكير من الآن فيها كفرصة للاستثمار.
بل إن الموضوع يحتاج إلى التفكير من الآن لخصخصة مشكلة المواقف بتأسيس شركة تدعمها الدولة لتتولى استثمار وإدارة مشكلة المواقف ومراقبتها عن طريق شرطة خاصة، سواء بوضع الرسوم أو المخالفات أو سحب السيارات المخالفة وتحميل صاحبها أجرة السحب وزيادة. وبحيث تمتلك وتنزع ملكيات بعض المباني وسط المدينة لبناء مواقف مظللة أو متعددة الأدوار كالتي سبق بناؤها في البطحاء. وتكون مدروسة بحيث يفصلها مسافات معقولة بحدود 500م مع توفير مسارات آمنة للمشاة منها. وكذلك توفير ساحات مواقف لمن يرغبون في توقيف سياراتهم على حدود المدينة للركوب مع أصحابهم، خاصة إذا كانوا يعملون قريبا من بعضهم Park & Ride. وكذلك إدارة مواقف على أطراف وسط المدينة وخارجها لتأجيرها على الشاحنات والحافلات السياحية أو حافلات الحجاج والمعتمرين أو من تتعطل سياراتهم.
المشكلة تتعاظم وإذا لم نتداركها ونبدأ في وضع الحلول الآن وقبل ارتفاع أسعار الأراضي، خاصة في الأحياء الطرفية فإنها ستتغلب علينا وتشل شريان مدننا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي