مشكلات اشتقاق المعايير الشرعية في العمل المصرفي الإسلامي

يبدو أن عملية اشتقاق المعايير أو المقاييس في الدراسات الإنسانية هي عملية مستمرة لا تتوقف، ولا تزال الدراسات والبحوث تركز على مراجعة هذه المقاييس، ومحاولة اكتشاف مقاييس حديثة أكثر دقة وعدالة.
وليست المعايير أو المقاييس الشرعية أقل أهمية من المقاييس التربوية أو النفسية أو الاجتماعية، وبالتالي فهي تتطلب المزيد من الجهود من أجل زيادة الدقة والعدالة والكفاءة فيها، وهذا يستلزم وجود خبراء وإخصائيين في القياس والتقويم والرياضيات ضمن الهيئات الشرعية المكلفة بالتوصل إلى معايير أو مقاييس شرعية، وهذا من شأنه أن يضبط المعايير ويجعلها أكثر دقة وإتقانا وعدالة.
وبما أن هذه المعايير ليست موضوعة للبنوك الإسلامية فقط، وإنما يجري تطبيقها على جميع شرائح المجتمع، فإنه ينبغي أن تراعى أحوال الناس، وضروراتهم وحاجياتهم وتحسين أضاعهم، من خلال هذه المعايير، وهذا يعني ضرورة وجود من يمثل هذه الشرائح المجتمعية عند إعداد وصناعة المعايير، كما يعني أن تكون المعايير ممثلة لكافة شرائح المجتمع.
إن وجود خبراء ومتخصصين من تخصصات أخرى، إضافة إلى ممثلين قانونيين ومن الهيئات الأهلية وممثلين عن البنوك المركزية، من شأنه أن يجعل هذه المعايير أكثر دقة وعدالة، وأكثر فاعلية وقبولا في التطبيق.
ومما يضعف أو يقلل من مصداقية المعايير الشرعية المطروحة حاليا. تعدد هذه المعايير بتعدد الجهات المصدرة لها، فهناك المعايير الصادرة عن هيئة المراجعة والمحاسبة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين، ومعايير مجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا، والهيئة الشرعية للتصنيف والرقابة، والوكالة الإسلامية للتصنيف، إضافة إلى قرارات مجامع الفقه وقرارات الهيئات الشرعية التابعة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، التي يمكن أن يشتق منها مئات المعايير.
إن تعدد المجامع والهيئات والمجالس الشرعية قد يكون أمرا محمودا، إذا ما وجد تنسيق وتشاور واتصال دائم فيما بينها، إما إذا كانت متفرقة لا صلة بينها ولا تشاور، فهذا يعني وجود تضارب قد يؤدي إلى الفوضى التي تفقد الناس الثقة بهذه المجامع والهيئات.
إن المعايير الشرعية المطروحة حاليا، هي ثمرة جهود ضخمة مشكورة من قبل علماء الشريعة، غير أنها ليست كافية لتمثيل جميع شرائح المجتمع، كما أنها موجهة في الغالب للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية؛ ولذلك فإنها في حاجة إلى جهود أخرى من قبل ممثلين عن شرائح المجتمع كافة، من أجل أن تكون صالحة لتمثيل فئات المجتمع كافة.
ومن أجل مزيد من التوضيح، لا بد من دراسة أحوال الناس والمتعاملين مع البنوك الإسلامية من حيث مدى التزامهم بتعاليم الإسلام بشكل عام. ومدى خضوع ظروفهم المعيشية لأحكام الإسلام السمحة.
لا بد من دراسة أحوال المسلمين والمتعاملين مع البنوك الإسلامية من حيث مستوياتهم الاقتصادية وبيان حدود الضرورات والحاجيات والتحسينات، وتصنيف المجتمع إلى فئات بما يتناسب مع هذه المستويات الاقتصادية. وبالتالي، فإن ما يمكن أن يكون جائزا للبعض قد يكون محرما للبعض الآخر وفق ظروفه ومستواه المعيشي.
فلا يعقل أن تكون المعايير التي تجيز المرابحة للآمر بالشراء في معاملة تمويل مولدات ضخمة لمصنع يتكلف ملايين الدولارات، هي المعايير نفسها والضوابط المطلوبة عند تمويل شراء بقرة أو أغنام لفلاحين معدمين. ولا يعقل أن تكون المعايير الموضوعة لتنظيم تمويل تجار ومستثمرين في صيغة الإجارة المنتهية بالتمليك هي المعايير نفسها التي تنظم تأجير مساكن لمحدودي الدخل.
بل إن الأمر يمكن أن يكون أخطر من ذلك، عندما يجد المستثمرون وأصحاب الشركات الكبرى من المحامين والقانونيين الذين يستأجرونهم من يستطيع أن يدافع عن حقوقهم ويحفظ مصالحهم في تعاملاتهم مع البنوك الإسلامية، بينما لا يتأتي ذلك لمعظم فئات المجتمع الفقيرة والمتوسطة، والتي تخضع في الغالب لعقود إذعان وظلم، بمباركة ورعاية من قبل الهيئات الشرعية، وبسكوت ولامبالاة من قبل واضعي ومنظمي المعايير الشرعية.
ويصبح الأمر في غاية الخطورة عندما يتم التسويق لهذه المعايير والمتاجرة بها من خلال شهادات تعطى لهذا المصرف أو ذاك مقابل رسوم أو مبالغ مالية.
ومما تقدم نجد أنه لا بد من وجود مؤسسة أهلية تمتلك الصلاحيات والأنظمة التي يمكن أن تصنف الناس وفق مستوياتهم المعيشية، وتراعي هذه المستويات من خلال المعايير الشرعية، قبل محاولة إخضاع البنوك الإسلامية للعمل بالمعايير الشرعية، وقبل تصنيف المنتجات المالية الإسلامية من حيث التحليل والتحريم.
كما أنه تقع على كاهل هذه المؤسسة مهمة كبيرة في إعادة النظر بالمعايير السابقة، وتيسيرها للعمل والانتفاع بها، كما أن عليها واجب وضع معايير عامة تصلح للاهتداء بها من قبل العملاء والأفراد غير المتخصصين.. وهذه مهام كبيرة، سوف تشكل إنجازا مهما في حقل الصيرفة الإسلامية، إذا ما نجحت هذه المؤسسة في تحقيقها.
ومما يزيد من أهمية إيجاد هذه المؤسسة المدنية الشرعية، أن معظم المعايير الشرعية لا تمتلك القوة الإلزامية القانونية، بسبب عدم تبنيها من قبل البنوك المركزية في معظم الدول الإسلامية، وعدم وجود مؤسسات حقوقية أو مدنية أو دينية تتبناها أو تدافع عنها.
وهذا يؤكد ضرورة أن تقوم الجهات المعنية بالمعايير الشرعية، بإعادة النظر في مسيرتها، من أجل إشراك متخصصين من علوم أخرى، وممثلين قانونيين، وممثلين عن القطاع الأهلي، وممثلين للبنوك المركزية، وإيجاد مؤسسة مدنية نقابية شرعية، تكون لها المرجعية المعيارية، وتمتلك القوة الإلزامية القانونية للعمل بالمعايير الشرعية، بما يحافظ على مصالح المالكين للمصارف الإسلامية، وبما يحمي جمهور المتعاملين معها من الاستغلال والظلم الذي تنطوي عليه عقود الإذعان وغيرها من الصيغ التي لا تنسجم مع أصول الصيرفة الإسلامية، وتتعارض مع أبسط القواعد والمقاصد الشرعية.

جامعة المدينة العالمية - ماليزيا

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي