قضية الإسكان وجدلية المسؤولية

يبدو أن الحديث المتكرر عن قضية الإسكان سيصنف ضمن المسلسلات المكسيكية أو التركية التي تطول وتطول دون أن يخرج منها المشاهد بأي نتيجة ملموسة. خالجني هذا الشعور وأنا أقرأ مقال الأستاذ سعود جليدان في هذه الصحيفة يوم الأربعاء قبل الماضي، وهو المقال الذي خصصه للرد على ما قلته في مقال سابق عنونته حينها بعنوان ''قضية الإسكان وجدلية الحل''. مقال الأستاذ سعود، مع أنه أكرمني فيه بشيء من وقته الثمين، إلا أنه عكس من وجهة نظري نمطا تقليديا من صراع المسؤولية وإلقاء التهم بين المسؤولين في القطاعين العام والخاص، وأبرز ما عبرت عنه كلمات المقال بجلاء ذلك الموقف المتحامل من أجهزة الدولة تجاه القطاع العقاري، فيما يخالف كل العبارات والتصريحات التي ترفع راية التعاون والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهي تلك الشراكة التي لم يكتب لها أن ترى النور بعد، وكيف لها أن تولد في مثل هذا المناخ من التجريم المسبق وتبادل الاتهامات بتحمل المسؤولية. ومع أن الأستاذ سعود افتتح مقاله بالتعبير عن الرغبة في الابتعاد عن الجدل المكروه، إلا أن ما طرحه في بقية المقال لم يخرج عن دائرة هذا الجدل، مع أني لا أجده جدلا مكروها، بل حديثا مخلصا ونقاشا صحيا آمل أن يسهم في كشف الغطاء عن مواطن الخلل في هذه القضية، ليمكن عندها وضع الحلول الملائمة والفعالة لمعالجتها معالجة جذرية.
أبدأ حديثي بالاعتذار للأستاذ سعود عن خطأ أساء فهمه، فأنا لم أقل في مقالي إنه تطرق للحديث عن منح الأراضي في مقاله الأول، وما قلته لم يعدو أن يكون محاولة مني لتشخيص المشكلة. إذ إن قروض صندوق التنمية العقاري لم تكن إلا أحد وجهي العملة في برنامج الإسكان الحكومي، في حين كان وجهها الآخر منح الأراضي الحكومية. والدولة تبنت هذا البرنامج منذ أكثر من 40 عاما، وأسست من خلاله آلية لتمكين المواطن من تحقيق حلم السكن عبر منحه عنصري الأرض والقرض لإنشاء مسكنه الخاص، وهي الآلية التي أجدد القول إنها حولت المملكة إلى بلد الأربعة ملايين مقاول. وأقول هنا للكاتب الكريم، إن التوقف عن منح الأراضي كان نتيجة لقصور إمكانات الدولة في تلك الفترة، وأتى متزامنا مع تعثر الصندوق في منح القروض للسبب ذاته، وهو ما أدى بهذه الآلية إلى التباطؤ والتعثر، وبدأت قوائم الانتظار تطول وتطول سواء من طلاب منح الأراضي أو قروض الصندوق. ولكن المشكلة يا سيدي أعمق من ذلك، فإيكال مهمة البناء إلى المواطن بهذه الطريقة لم يكن إلا ليشغله عن عمله الأساسي، ويوقعه في أخطاء تنجم عن ممارسة مهمة ليست من صميم اختصاصه، وينتج هذه البنية العمرانية المتهالكة التي أصبحت عبئا على اقتصاد الوطن. وأما قولك أن الصندوق لم يشترط مبدأ البناء الفردي على المقترضين منه، وترك الأمر لتقديرهم وفتح الباب لهم لشراء مساكن جاهزة، فهو قول مستغرب. فإذا كانت إدارة الصندوق تعلم ما أشرت إليه من قصور في قدرات القطاع العقاري على إنتاج وحدات سكنية ملائمة، فكيف لها أن تتوقع من المقترضين سبيلا غير ممارسة البناء الفردي؟ ثم ألم يكن الأحرى بالصندوق أن يوجه جهوده لتنمية هذا القطاع العقاري ودعمه لينتج تلك الوحدات السكنية الجاهزة ليجد فيها المقترضون ضالتهم المنشودة؟ أم أن إدارة الصندوق كانت تعلم علم اليقين كم هو فاسد ومحتال هذا القطاع حتى تحمي المواطن المسكين منه؟
إن هذا الموقف الاتهامي والتجريمي للقطاع العقاري لهو موقف متحامل لا يمكن أن يؤسس لمعالجة جادة لهذه المشكلة، إذ لا يمكن أن تتم هذه المعالجة دون مشاركة جادة وفاعلة ومنظمة من الأطراف ذات العلاقة كافة. بل إنه موقف يتغافل عن حقيقة موطن المسؤولية، خاصة عندما يقول الكاتب إن أولئك العقاريين عمدوا إلى تجميد مساحات كبيرة من الأراضي على مر السنين لتحقيق أرباح خيالية. فالكاتب يعلم يقينا من هم ملاك الأراضي البيضاء التي تشغل مساحات كبيرة من مدن المملكة، ولماذا لم تجد كل الدعوات لفرض الزكاة الشرعية والرسوم البلدية على هذه الأراضي أذنا مصغية حتى الآن؟ والكاتب يعلم براءة القطاع العقاري من جزء كبير من هذه التهمة، خاصة عندما يتذكر أن هذا القطاع العقاري هو الذي مد مشروع التنمية السكنية بالأراضي المطورة على مدى السنوات الماضية، وهو الذي قاد برامج المساهمات العقارية التي أنتجت تلك المخططات التي مكنت كثيرا من الناس من الحصول على الأراضي التي بنوا عليها مساكنهم، خاصة عندما يتذكر الكاتب كم أن منح الأراضي التي كان يتم توزيعها لم تكن صالحة للبناء المباشر نتيجة لمواقعها النائية وانعدام الخدمات فيها، وكيف أنها أصبحت سلعة تباع وتشترى عوضا عن أن تكون لبنة من لبنات البناء. ثم حتى لو افترضنا هذا الفساد وهذه الانتهازية من القطاع العقاري، فأين كانت أعين الدولة وأجهزتها الرقابية طيلة تلك المدة؟ ولماذا لم يتحرك أحد لوقف هذه المهزلة؟ ولماذا كانت الأنظمة والتشريعات تسمح لهم بالقيام بما كانوا يقومون به من مَصِّ دم المواطنين وهضم حقوقهم؟! ثم ألم تكن قوائم المستثمرين في تلك المساهمات العقارية تتضمن شخصيات اعتبارية، أم أن هؤلاء أيضا شركاء في الإفساد والانتهازية؟ يا سيدي الكريم، إن كان ما تصفه من فساد قد حدث بيد العقاريين فهذا ليس ذنبهم، بل ذنب النظام الذي مكنهم من هذا الاستغلال، وفتح لهم الباب على مصراعيه لممارسة هذا الفساد تحت أعين المسؤولين بل بمشاركة منهم. وهذا بالضبط ما كنت أعنيه عندما وجهت حديثي بالنقد لبرنامج الإسكان الحكومي المبني على أرض المنحة وقرض الصندوق. فما كنا نحتاج إليه في ذلك الحين، وما نحتاج إليه بشكل أكثر إلحاحا في الوقت الحاضر، هو برنامج يتم بناؤه على شراكة فاعلة من كل أطراف اللعبة، شراكة قائمة على الثقة المتبادلة وليس على التجريم المتبادل والاتهامات المسبقة، شراكة تحدد دور كل طرف وتجعله متكاملا مع أدوار بقية الأطراف، شراكة تجعل من الإسكان صناعة، ومن المسكن وحدة إنتاجية تطبق عليها كل معايير الجودة التي يتم تطبيقها في المنتجات الاستهلاكية الأخرى، شراكة تسعى إلى التوظيف الأمثل لموارد التمويل الحكومي منه والخاص، شراكة تستقطب الخبرات العالمية التي نجحت في معالجة هذه القضية معالجة ناجعة في بلدان أخرى من هذا العالم، ووصلت بنسب تملك المساكن إلى مستويات لا نملك أن ننظر إليها إلا بعين الحسرة والألم ونحن البلد النفطي الأغنى بين دول المنطقة، والأوحد من كل الدول العربية في مصاف الـ20 الكبار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي