نهدي الفرص ونحن في حاجة إليها!

التدهور الكبير الذي أصاب خدمات النقل الجوي الداخلي يبعث على الأسى ويثير في النفس حيرة شديدة. عندما أتأمل الاختناقات المتتالية في بعض قطاعاتنا الاقتصادية التي ما زالت - مع الأسف - تنتقل من نشاط إلى آخر وتتكرر غالبا للأسباب نفسها، أشعر كأننا مجتمع مولع بتأخير حل مشكلات الاختناقات، وبتبلد الرغبة في الاستفادة من تجارب الماضي ودروسه! الاختناقات عندنا تحدث غالبا بسبب قيود إدارية وتنظيمية تمنع العرض من مجاراة نمو الطلب الذي يصاحب زيادة عدد السكان ونمو الإنفاق الكلي من جانب الحكومة والقطاعين الخاص والعائلي.
وأثبتت التجارب أن الأنشطة الاقتصادية التي لها سعر تباع به في الأسواق ويمكن أن تمارس بطريقة تجارية بحتة يجب إبعادها عن دائرة العمل الحكومي وبيروقراطيته المعطلة وكفاءته المتدنية، فكيف إذا ضم إليها مأساة كون الحكومة محتكرة لهذا النشاط؟ من الضروري العمل سريعا على تحويل مثل هذه الأنشطة لتعمل وفق قواعد السوق والمنافسة التي من طبعها أن تضمن آليا جودة الخدمة والتكلفة. ما زلنا لم نتعلم من التجارب المريرة لخدمات الهاتف الثابت، ثم الهاتف الجوال قبل الخصخصة! فلماذا نصر على ممارسة الأخطاء نفسها؟ ولا يكفي أن يقال لنا إن العمل على خصخصة هذا النشاط جار على قدم وساق، ويبقى الزمن مفتوحا ومصالح الناس متعطلة تنتظر متى تنتهي دراسات الخصخصة. إن كانت هناك تعقيدات كثيرة يصعب حلها سريعا، فلنأخذ بالحلول المؤقتة ونسمح للغير بالعمل حتى تنتهي دراساتنا ونتخذ ما يروق لنا من قرارات.
كتب إلي قراء كثر يناشدونني وغيري الاستمرار في الكتابة عن موضوع تردي خدمات النقل الجوي في بلادنا. وهم يسردون نماذج من معاناتهم الشديدة والمستمرة منذ أمد غير قصير نتيجة عجز الخطوط السعودية عن توفير مقاعد ورحلات كافية بين مدن البلاد في الوقت الذي نرى فيه جميعا كيف يزيد الطلب على هذه الخدمة عاما بعد آخر بمعدلات عالية. يقول أحدهم إنه يسكن في المنطقة الشرقية وله مصالح وأعمال في مكة المكرمة وبحكم تنقله بين المنطقتين فإنه يعاني الأمرين منذ سنوات عند الحجز لأن عدد الرحلات والمقاعد غير كاف، وكثيرا ما تعطلت مصالحه لفشله في السفر في الوقت المناسب، والأمر يزداد سوءا وصعوبة عاما بعد آخر. ويؤكد آخر من سكان جدة أنه اضطر في أحيان إلى أن يذهب إلي دبي أو البحرين أو قطر من أجل الوصول إلى الرياض أو الدمام لإنهاء مصالحه، هذه مواقف حقيقية وليست افتراضية! والشكوى المريرة نفسها نسمعها من سكان القصيم وأبها ومدن البلاد الأخرى في الشمال والجنوب. ولا أعرف إلى متى ينتظر الناس حلا لهذه الاختناقات؟ إننا إزاء وضع يستدعي من المسؤولين ممارسة ضغوط جادة على إدارة الخطوط السعودية من أجل وضع حد لمعاناة الناس وتطوير خدماتها والعناية بعملائها ومعاملتهم بطريقة حضارية وإنسانية. وإذا لم يكن ممكنا للخطوط السعودية أن تجد حلا سريعا فعلى مصلحة الطيران أن تأذن لو مؤقتا لشركات الطيران المجاورة بالعمل على الرحلات الداخلية.
إن المسألة أكبر من مجرد توفير مقعد لزيد أو عبيد أو زيادة عدد الرحلات لمدينة أو أخرى، إن في نقص الخدمة تعطيلا شديدا لحركة الحياة وسببا لخلق أزمات في قطاعات أخرى بعضها لا يتحمل تأخيرا كمشكلة البطالة! نعم ألسنا نتحدث صباح مساء عن ضرورة فعل كل ما هو ممكن لتشجيع توفير وظائف مستمرة للأجيال الصاعدة من الفتية والفتيان؟ هل نحن في حاجة إلى إثبات ما استقر عليه المعرفة من التاريخ الاقتصادي للأمم عن الأثر البالغ لتوافر شبكة نقل حديثة وكافية في أي مجتمع في رواج الأنشطة الاقتصادية ونموها؟ إن تعطيل مصالح الناس أفرادا وشركات فيه تعطيل لمصلحة البلاد، فمصلحة البلاد ليست سوى مجموع مصالح العباد! ومع الأسف فإن البعض يتصرف وكأنه لا يدرك أن الأنشطة الاقتصادية مترابطة فتعطيل حركة النقل وعدم توافر وسائل نقل فاعلة وكافية معطل لعجلة الاقتصاد ولقيام المشاريع ومؤخر لتنفيذ الاستثمارات المختلفة وفي ذلك هدر لجزء من ناتجنا الوطني وضياع فرص ثمينة لتوليد الوظائف في بلد تشتد فيه حاجة الناس إلى أية فرصة وظيفية.
إن تخلف بيئة صناعة النقل الجوي بعنصريها: المطارات والخطوط الجوية وما يرتبط بها من صناعات مساندة كالتعليم والتدريب والصيانة والمناولة الأرضية أضاع على البلاد استثمارات واسعة وفرص عمل عديدة انتقلت إلى دول مجاورة. إننا نهدي الفرص على أطباق من ألماس للآخرين في وقت نحن في أمس الحاجة إليها. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي