التلوث «الليموزيني»
يعتبر النقل ووسائله المختلفة أحد أهم مرتكزات الحياة العصرية، خاصة في المدن. وتبذل المجتمعات الكثير من المال والجهد لتحسين النقل والمواصلات؛ لأن عائده المالي والاجتماعي يمثل جزءا كبيرا من الناتج المحلي. بل إن نجاح المخططين والتنفيذيين في تقليل زمن الانتقال من مكان إلى آخر ولو لثوان معدودة يقيد إنجازا يتحدث عنه الركبان كما يقال. وإذا أخذنا المملكة فإننا نجد أن النقل قضية مهمة وحلقة ضعيفة في منظومتنا التنموية فوسائل النقل العام من حافلات وقطارات ومترو معدومة في مدننا ولا يوجد أمامنا سوى وسيلة النقل الخاصة وسيارات الأجرة.
وفي السنوات الماضية دخل مصطلح الليموزين في حياتنا كوسيلة نقل تعتمد على وجود شركات ومؤسسات تتولى هذه المهمة، وكان الأمل كبيرا أن يُحدِث ذلك نقلة نوعية بدلا من سيارات الأجرة الفردية التقليدية، وأن تحل عقدة توافر النقل. وحصلت هذه المؤسسات والشركات على تراخيص من الجهات المختصة ضمن ضوابط واشتراطات عدة منها ما يتعلق بالتنظيم الإداري ومنها ما يتعلق بالسيارات ومنها ما يتعلق بالسائق وشروط ممارسته المهنة.
وفي بداية التطبيق كانت الأمور تسير بشكل معقول، حيث اتصفت هذه المرحلة بنظافة السيارات وحسن سلوك ومظهر السائقين، وكنا نأمل مع توسع المدن وزيادة الازدحام والحاجة إلى أن تكون وسيلة النقل هذه خيارا متاحا ومقبولا لإنجاز الأعمال. إلا أن الواقع والممارسة رسما لوحة كئيبة لا تتوافر فيها أدنى متطلبات الذائقة الفنية. لقد وصل حال النقل بواسطة الليموزين إلى وضع سيئ وغير مريح وغير آمن. لقد تدهور شكل ونظافة مركبات الليموزين فلم يعد غريبا أن تجد هذه السيارات والصدمات تنتشر على هيكلها وكأنها جمل أجرب وكتابات ذاتية بلغة السائقين تتحدى كل ذوق أو التزام بشروط المهنة. كما لم يعد مستغربا أن تجد المقاعد وهي في حالة مزرية من تمزيق وكتابات وبقايا أطعمة ومشروبات على المراتب. أما السائقون فقد أصبح أكثرهم يرتدي ما يخطر على باله من ملابس وأصبحت شروط النظافة في المنظر والرائحة محل تساؤل واستفهام. أما استخدام العداد لتحديد الأجرة فهذا أمر من عالم الخيال لا يؤمن به واقع الليموزينات، أضف إلى ذلك كثرة التجوال في الشوارع والتوقف غير المتوقع وغير ذلك من السلوكيات.
إن عالم الليموزينات في مدننا، خاصة الكبيرة منها مثل الرياض وجدة والدمام كارثي لا يمكن قبوله أو تفسيره، فوصل الأمر إلى نقطة ضرورة تدخل الجهات المختصة لإيقاف هذه المهزلة، فالقضية لم تعد تقتصر على كونها وسيلة مواصلات سيئة، بل إنها تشويه لوطننا ومسيرتنا التنموية. ولعلنا في هذا المقام نورد للقارئ العزيز نموذجا من نماذج عالمية عدة يوضح أهمية المهنة وكيفية إيصالها للمستوى المنشود الذي يحترم السائق والراكب والمجتمع. في بريطانيا تتعرض المركبة والسائق إلى شروط واشتراطات قد تصل في أحيان كثيرة إلى مرحلة التعجيز. فالسائق يمر باختبارات نظرية وعملية متعددة يعتبر اجتيازها نقلة نوعية تضمن له مهنة ودخلا يستحقان العناء لدرجة اضطرار الكثيرين إلى الالتحاق بأكاديمية متخصصة يشرف عليها ويحاضر فيها متخصصون. أما المركبات فإنها تخضع لفحوص مستمرة لضمان توافر شروط ومواصفات التاكسي التي تتصف هي الأخرى بالصعوبة البالغة.
أما عندنا - وبكل أسف - فيستطيع أي شخص ومن أي جنسية ومهما كانت لغته أو معرفته بمدننا أن يقود ليموزين. كما يستطيع أن يستخدم أي سيارة لهذه المهنة وكل ما يحتاج إليه هو وجود شعار تاكسي على البابين وشركة أو مؤسسة تحصل على نسبتها اليومية.
يحز في النفس أن من حولنا قادرون على ضبط وتطوير وسيلة النقل المعروفة بالتاكسي بينما نحن ننظر وكأن ذلك قدر محتوم لا نجاة منه. إن كل واحد أتته الفرصة لاستخدام تاكسي في دبي على سبيل المثال لا يمكن له إلا أن يحترم ما تراه عيناه من مركبة نظيفة ومصانة بشكل جيد وسائق له زيه الخاص واستخدام عداد الأجرة بشكل تلقائي دون مفاصلة أو نقاش، وكذلك وجود متابعة مستمرة للسائق من الشركة المعنية منذ لحظة تحركه حتى وصوله إلى وجهته. كما أن أجهزة الشرطة والمرور تتابع بشكل مميز ما يدور في هذه المركبة ومدى التزامها بالأنظمة بدءا بوسائل السلامة وانتهاء بعدد الركاب، ولقد شاهدت رجل شرطة سرية عند إحدى الأسواق التجارية الكبيرة وهو يعطي من دون تردد مخالفة لسائق تاكسي لوجود راكب واحد زائد على المسموح به بينما التاكسي لدينا لا يكتفي بمخالفة العدد الزائد، إنما يكمل ذلك بحمل ما يقابله ولو كان ذلك معدات بناء تخرج من نوافذ المركبة بمنظر غير حضاري وتعرض الآخرين للخطر. عندهم تجد أن كل موقع يتردد عليه جموع كثيرة يتم تخصيص مواقع للتكسيات وبشكل منظم، أما عندنا فالأمر متروك للاجتهادات وغالبا ما يكون ذلك عن طريق اللف والدوران وخلق الازدحام والفوضى.
إن أحد أسباب هذا الوضع المأساوي عندنا هو أن المالك الحقيقي هم السائقون، فكثير من المؤسسات والشركات مجرد واجهات رسمية فقط، بينما الملاك الحقيقيون هم من نراهم على هذه السيارات يطوفون شوارعنا بحثا عن زيادة الدخل دون مراعاة واهتمام لما يتطلبه تطور ونمو المجتمع وكأنهم يؤمنون بالمثل القائل ''جلد ما هو جلدك جره على الشوك''. وهذا أمر يسهل اكتشافه، فمن يذهب ليلا إلى الأحياء القديمة التي تسكنها هذه العمالة سيجد سيارات الليموزين وقد أغلقت الشوارع فأين مقار إيقاف مركبات هذه الشركات والمؤسسات مالكة هذه السيارات ''حسب ما يعرف بالنظام''؟ يجب ألا نخدع أنفسنا وأن نكون أكثر صدقا مع أنفسنا بأن نشاط الليموزينات مثل كثير من الأنشطة يمارس فيه التستر وعلى ''عينك يا تاجر'' ومن لم يعجبه ذلك فليشرب من البحر.
لقد أصابت الليموزينات مدننا بالتلوث البصري والهوائي والسلوكي، وهي مرض عضال يفترس صحتنا التنموية، وإذا لم نعالجه الآن فسيكون قاتلا لكثير من إشراقات تنميتنا. علينا أن نختار بين استمرار هذا النشاط والسماح للشركات والمؤسسات باحتكار معظمه وإعطاء غير السعوديين فرصة ممارسته، لكن يكون ذلك بضوابط وشروط ومتابعة تحترم آدميتنا. أو أن نعود إلى ما كان سابقا قبل الطفرة واقتصار ممارسة النقل على السعوديين ونحن مستعدون كمواطنين أن نتقبل تقصيرهم وهفواتهم، لكننا سنحقق دخولا مجزية لشريحة كبيرة من أبناء الوطن، وفي هذه الحالة يكون ''زيتنا في دقيقنا''.
ماذا لو؟
ماذا لو تم نقل صلاحية ومسؤولية النقل داخل المدن إلى الأمانات والبلديات المعنية وألزمت بالتالي على طرح خدمة الليموزينات بالمنافسة العامة سواء لكامل المدينة أو جزء منها ولمدد زمنية كافية لتحقيق الربحية وبضوابط واشتراطات وميزات تناسب كل مدينة على حدة؟