هل نمارس الشفافية والمساءلة؟
توصلت كثير من الدراسات والبحوث التي قامت بها الأمم المتحدة لمساعدة الدول النامية على تجاوز تخلفها وضعف أدائها التنموي إلى أن فقدان الشفافية وعدم وضع أطر قانونية يتم تنفيذها على الجميع خاصة المتنفذين في القطاعين الخاص والعام هما من أهم الأسباب لما تعانيه هذه الدول من تخلف وتدهور في معدلات التنمية ومستويات الحياة لمواطنيها. وقد بينت هذه الدراسات أن كثيرا مما يعرف بدول العالمين الثاني والثالث يمكن لها أن تخطو خطوات متقدمة لو تمكنت من وضع معياري الشفافية والمساءلة في أجندة الحكم والممارسة الإدارية والقانونية لأجهزتها المختلفة.
وهنا يبرز السؤال المهم لدى الجميع وهو: إذا كانت الشفافية والمساءلة بمثل هذه الأهمية فلماذا يتجاهلهما متخذو القرار في الدول النامية؟ في رأيي أن هذه الدول يمكن وضعها في مجموعتين: المجموعة الأولى وتدخل فيها الدول التي يعي قادتها الأمر ولكن يقفون ضده لمصالح شخصية وقد يستخدمون القوة لمجابهة ومحاربة أي محاولة لتغيير الحال، حيث يحققون من ورائه الثراء ويحصلون على الميزات ويمارسون مقولة "أنا ومن بعدي الطوفان" وهم في ذلك قد يصلون إلى التضحية بالبشر والكرامة الوطنية بل قد يضحون بأجزاء من الوطن وهو ما يشاهد في بعض أجزاء عالم اليوم.
أما المجموعة الأخرى فتشمل الدول التي تتصف بالترهل وعدم ديناميكية اتخاذ القرار والتخوف من التغيير. هذه الدول قد تتواجد الرغبة لدى قادتها في تحقيق الشفافية والمساءلة ولكن يتعثر تنفيذ رغبتها لأسباب وظروف عدة منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو إداري.
وإذا أخذنا المملكة كحالة لمعرفة واقع الشفافية والمساءلة فإن التقييم الأولي أو الانطباعي يقودنا إلى القول إننا في موقع وسط ليس بالجيد ولكنه ليس بالسيئ. وللوصول إلى مرتبة أفضل فإن هذين المعيارين كانا بحاجة إلى دفعة قوية وهو الأمر الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز من إنشاء هيئة لمكافحة الفساد ترتبط مباشرة بالملك ويرأسها مسؤول برتبة وزير وإطلاق برنامج تطوير القضاء. كما أن أحداث سيول جدة وتعامله، حفظه الله ، مع ذلك وتوجيهاته للمسؤولين لمعاجلة الحدث دعما مبدئي الشفافية والمساءلة ووضعا اللبنة الأولى في طريق طويل تحتاج إليه مسيرة التنمية السعودية.
إن معياري الشفافية والمساءلة أمران مختلفان من حيث المكونات ولكنهما متكاملان من حيث الهدف فهما جناحا طائر التنمية وإصابة أو ضعف أحدهما سوف يؤدي إلى سقوط الطائر في أغلب الأحيان، أو عدم طيرانه إلى مسافة بعيدة في أحسن الأحوال. ومع وجود من يرى إمكانية تطبيق وتطوير أحدهما دون الآخر إلا أن الحكمة وبعد النظر يقتضيان العمل عليهما معا ضمانا لتحقيق أفضل النتائج.
وإذا كنا قد شهدنا في السنوات الأخيرة دفعة قوية في مجال الشفافية، حيث لعب بعض الإعلام التقليدي ومعظم الإعلام الحديث دورا مهما في إيصال المعلومة (حتى لو كانت مبتورة) إلى المجتمع إلا أنه يحمد للقطاع الحكومي تماشيه ومسايرته لهذا التوجه. لقد أصبح لكثير من القطاعات الحكومية متحدث رسمي يبين ويوضح أغلب ما يحصل ويمكن التواصل معه بشكل مستمر من قبل وسائل الإعلام. ومع أنه قد يقال بوجود سلبيات لهذه الممارسة إلا أن النظر إلى الجزء المملوء من الكأس يحفزنا لتقدير هذه الخطوة مع المطالبة بتفعيل أكبر للممارسة وتحسين للنتائج والمخرجات.
ولعل خير مثال للتغيير في ممارسة الشفافية لدينا هو الظهور المستمر للمتحدث الرسمي لوزارة الداخلية واستعراضه الأحداث الأمنية المهمة وتدعيم ذلك بالمعلومات والأرقام مما جعل ظهوره في وسائل الإعلام مصدرا مهما للباحثين عن المعلومة وكذلك مصدر اطمئنان وثقة للمواطنين، وإن كانت هذه الشفافية محصورة بشكل كبير في المجال التقليدي المتعلق بالجرائم التقليدية من إرهاب ومخدرات وحوادث أمنية ولذا لا نسمع أو نشاهد شفافية مثلا في الجرائم الاقتصادية أو قضايا المال العام.
أما إذا أخذنا القطب الآخر من قطبي المعادلة التي بدأنا بها المقال وهو موضوع المساءلة فإن الصورة ضبابية والوصول إلى فهم واقعها أمر ليس بالهين لأسباب عدة يأتي على رأسها الفكر التقليدي الذي لم يستوعب تغيرات المجتمع السعودي وتأثر سلوكياته بما يحصل في العالم بما في ذلك نوعية وكيفية ممارسة الجريمة. كما أن المنهجية التقليدية لم تلق بالا لأهمية وضرورة الانفتاح الإعلامي، ولم تتخذ خطوات رئيسة في تأطير وتقنين الأحكام ولم تتوافر لديه آليات تتعاطى مع الجريمة الحديثة ولذا شهدنا نجاحا كبيرا في المساءلة في الجرائم الأخلاقية والممارسات المعروفة في جريمة المجتمع البسيط. أما جرائم وممارسات العصر الحديث فإن ما يتم فيها إنما هو محاولات فردية من بعض المتنورين. ولعل قضايا الشيكات دون رصيد وغسيل الأموال والجرائم الإلكترونية أمثلة حية تقلل من كفاءة وفعالية المساءلة في الواقع السعودي. ومع أن الحكومة حاولت تفادي هذا بإنشاء لجان للتعامل مع هذه الأمور إلا أن ذلك شاهد يؤكد الخلل الحاصل ويضعف قضية المساءلة التي يجب أن تكون ضمن نظام قضائي واضح تخضع له كل قضايا الانحراف والخلل السلوكي سواء كان فرديا أو جماعيا. وهذا الواقع ليس أمرا خفيا على الحكومة وهو ما دفعها لإطلاق برنامج ضخم لتطوير القضاء خصصت له مبالغ مالية كبيرة تحقيقا لهدف نبيل ومهم في مسيرة تقدم وتطور المجتمع السعودي ألا وهو عدالة المساءلة.
إن الوصول بمبدئي الشفافية والمساءلة إلى مستويات متقدمة تماثل ما يحصل في دول العالم الأول يتحقق عندما تظهر أسماء كبيرة ومعروفة يتم مساءلتها عن أخطائها وخطاياها مثلها مثل الأشخاص العاديين فالتعامل يجب أن يكون مع الحدث بصرف النظر عمن قام به.
إن الشفافية والمساءلة أمران ضروريان يجب أن يكونا على رأس قائمة أولويات المجتمع السعودي وأجندته المستقبلية بمكوناته كافة من قطاع عام وخاص ومدني يجب ألا نبخل عليهما بالمال، وأن نتحمل ألم تطبيقهما فألم فترة محدودة هو أمل أجيال مقبلة.
ماذا لو؟
ماذا لو حول المعهد العالي للقضاء إلى جامعة وتم التوسع في قبول الملتحقين ليشمل تخصصات غير تقليدية.