العقار أم الطعام والشراب .. بداية النهاية للطعام الرخيص
هناك مسألة مهمة، لكنها مهملة في عقولنا ووجداننا، وهي فضيلة الشكر، فشكر المنعم وهو الله - سبحانه وتعالى - مظهر من مظاهر العبادة الحقة لله - سبحانه وتعالى - فهو مثله مثل الصلاة والصوم وقراءة القرآن، بل إن الشكر الذي يأتي بعد التفكر في نعم الله يزيد الإنسان خشية من الله في كل ما يقوم به من عبادات، والخشية هي روح العبادة. فهذا التفكر في النعم الإلهية التي تحيط بالإنسان من كل جانب والدوام على تذكرها وشكر الله عليها تحسس الإنسان بفقره وحاجته المتأصلة إلى الله - سبحانه وتعالى - وهذا الإحساس بالفقر هو الذي يجنب الإنسان الشعور بالاستغناء عن الله، الذي قد ينتهي بالإنسان إلى السقوط في دائرة الكفر والطغيان "إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى" - الآيتان 6 و7 من سورة العلق. والأخلاق كما هي كل الصفات الأخلاقية الربانية تساعد الإنسان المؤمن على التكامل في علاقته مع الله - سبحانه وتعالى - وفي التكامل في تعامله مع نفسه ومع البيئة التي يعيش فيها، وكلما ازداد هذا الإنسان تكاملا ازداد قربا من الله - سبحانه وتعالى - وبفضل هذا القرب من النور الإلهي يزداد الإنسان حكمة ورشدا، وينتظر الإنسان الحكيم والمجتمع الحكيم الخير الكثير كما قال الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" ـ الآية رقم 269 سورة البقرة.
والحكمة تقتضي من الإنسان أن يوجه ما عنده من موارد لأهم حاجاته، والتحدي الذي تواجهه دول العالم اليوم هو الحاجة إلى الطعام والشراب، فهناك الكثير من خبراء المستقبل ممن يؤكدون أن المزيد من الناس وفي الكثير من مناطق العالم سيواجهون الجفاف ومشكلة نقص حاد في المياه الصالحة للشرب، بل هناك من يرى أن الحروب القادمة ستكون حروبا للسيطرة على مصادر المياه، وأن المياه ستكون من أهم المشكلات التي ستثير الخلافات والنزاعات بين الدول. واليوم تضاف إلى مشكلة المياه مشكلة أخرى بدأت تفرض نفسها عالميا وهي مشكلة نقص الطعام، فأسعار كل الحبوب الرئيسة آخذة في التصاعد، وهناك من يحذر من مجاعة حقيقية قادمة في المستقبل، فالأمم المتحدة ذكرت في تقرير لها أن الدول الأقل نموا اضطرت إلى أن تشتري ما تحتاج إليه من طعام بأسعار تعادل ثلاثة أضعاف ما كانت تشتريه به قبل سنوات قليلة، وبهذا قد تجد هذه الدول نفسها عاجزة عن الإيفاء بحاجات مواطنيها إلى الغذاء في المستقبل. والسؤال المهم الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: ماذا أعددنا لمواجهة ما قد يأتي به المستقبل من أزمات نقص في الطعام والشراب؟ وهل من الحكمة أن ننشغل بالعقار والأنشطة غير التنموية وننسى قضايا ملحة وخطيرة مثل أزمة الطعام والشراب، التي بدأ العالم يفكر فيها ويعد الخطط لمواجهتها؟ هل خططنا العقارية فعلا تساعدنا على مواجهة هذه المشكلات والتحديات أم تزيدها تعقيدا وتستنزف الكثير من مواردنا وقدراتنا على مواجهتها وحلها؟ هل الواحد منا عندما يجلس إلى مائدة طعامه يفكر في مصادر الطعام الموجودة أمامه؟ فالأرز من الهند وباكستان ودول أخرى، واللحم أكثره يحمل إلينا من دول قريبة مثل السودان ودول عربية أخرى ودول بعيدة جدا عنا مثل أستراليا ونيوزيلندا، والقمح نستورده من أمريكا وكندا وغيرهما، والفواكه تأتينا من كل جوانب العالم، والخضار بعضها نزرعها، لكن بعمالة مستوردة ورخيصة ولا ندري هل ستبقى هذه العمالة رخيصة؟ وهل سترضى أن تأتينا في الأصل لتعمل عندنا؟ هل موائدنا ستتقلص كما ونوعا إما بسبب عدم قدرتنا المالية على شرائها وإما بسبب عدم توافرها لنا؟ هل سيكون هناك طعام لنشتريه؟ فدول زراعية كبرى مثل الصين والأرجنتين لجأت إلى فرض ضرائب وحصص للحد من صادراتها من القمح والأرز لكيلا يكون هناك عجز محلي عندها، وهناك من الدول مثل كمبوديا والهند وإندونيسيا وفيتنام فرضت حظرا تاما على صادراتها من الأرز ونحن في المملكة تأثرنا بما حدث في هذه الدول، وكيف أن أسعار الأرز ارتفعت عندنا في بعض الأحيان إلى الضعف، وهذا جرس إنذار لما قد يحدث في المستقبل.
أما بخصوص موضوع المياه فلسنا نبالغ إذا قلنا إننا دولة فقيرة مائيا وإن مواردنا المائية المتاحة لنا محدودة جدا، وبالتالي ليس من المقبول ألا نشعر بضرورة التخطيط لتأمين حاجاتنا من المياه. مشكلة نقص المياه بدأ يحس بها المواطن، وبالأخص في فصل الصيف، لكن السؤال هل هناك إحساس عام بأهمية التعامل الجاد مع هذا الموضوع على المديين القريب والبعيد؟ هل من يراقب سلوكياتنا وممارساتنا الاستهلاكية للمياه يحصل عنده شعور بأننا فعلا ندرك حال المياه عندنا؟ هل الناس عموما تدرك أن مخزوننا من المياه الجوفية فعلا مهدد بالنفاد بسبب عشوائيتنا في البناء والعمران.
كل شيء في الحياة عندما يختل انضباطه وتعمه الفوضى يتحول إلى فعل هدام ومخرب، فالخلية في جسم الإنسان عندما تتمرد على موروثاتها الجينية التي تعطيها الاستقامة والانضباط وتصبح حركتها ونموها وعلاقاتها مع الخلايا الأخرى فوضوية فإنها تتحول إلى خلية مرضية وقد يتطور مرضها لتصبح خلية سرطانية لا تفتك فقط بالخلايا المشابهة لها، إنما تفتك بالجسم كله. العقار عندنا بات فعلا جسما مريضا وبمرضه تأثرت كل أوجه التنمية عندنا، بل ربما وصل الحال إلى حالة من التسرطن باتت تهدد فعلا مقومات التنمية، وبالتالي فالعلاج المطلوب لا بد من أن يكون علاجا جذريا وألا تكون العواقب في المستقبل جد وخيمة. هناك أمور عدة تكشف لنا عما لحقته حالة التسرطن العقاري في الكثير من جوانب حياتنا، نذكر القليل منها وباختصار:
1- إن التوسع غير المنضبط للعقار اقترب من أن يقضي على مناطقنا الزراعية المحدودة، فنحن نعرف أن المملكة بلد صحراوي، لكن فيها مناطق زراعية وواحات طبيعية، وهذه المناطق الزراعية الطبيعية والواحات لم يخترها الإنسان ولم يحدد مكانها وحدودها، إنما كان للظروف الطبيعية والمناخية الدور الرئيس في ذلك، وبالتالي فإن تحويل هذه المناطق الزراعية الطبيعية إلى مخططات ومناطق سكانية وكأن عندنا نقصا في الأراضي المفتوحة ظلم وتعد واضح على الطبيعة، وهو أيضا يشكل مخاطرة كبيرة بمستقبل أمننا الغذائي. فإذا كانت أمريكا البلد القارة استوردت بعد الحرب العالمية الثانية عددا من النخيل من العراق، وهي اليوم عندها مزارع بأكثر من مليون ونصف مليون نخلة، وهي تمول الآن بحوثا علمية لجعل هذه النخيل تثمر مرتين في السنة فإننا - مع الأسف - جعلنا من العقار حربا شعواء على النخلة، لأننا كل يوم نفقد عددا من هذه النخيل، والسبب هو هذا النمو العقاري غير الطبيعي الذي بدأ يقضم من أراضي واحاتنا الطبيعية المشهورة بزراعة النخيل، فالنخيل هذه الثروة التي لا تقدر بثمن نريد أن نقضي عليها والسبب هو العقار وتجارة الأراضي. وهل الخلجان التي تستقبل الأسماك في موسم تكاثرها هي الأخرى قد نجت من سرطان العقار؟ فلم تكفنا الصحراء على كبرها حتى أخذنا ندفن البحر غير مبالين بما سيحدث لثروتنا السمكية، التي هي جزء مهم في منظومتنا وأمننا الغذائي، ونحن شهدنا كيف أن أمريكا غضبت عندما تسرب البترول من إحدى المنصات البترولية في خليج المكسيك وكل ذلك خوفا على ثروتها السمكية.
2- إن السرطان العقاري استنفد الكثير من مياهنا، والأيام المقبلة تنذر بحلول العطش عندنا عندما تمتد المدن بهذا الاتساع وبحجم هذه الأراضي الكبيرة التي تغري الكثير منا بعدم الرشد في استهلاك المياه، فكيف لا نتوقع حدوث أزمة مياه في المستقبل وكل الدراسات تقول إن مستوى المياه الجوفية ينخفض عندنا بمستويات وبمعدلات مخيفة، وقد يصل هذا الانخفاض إلى مستوى يجعلها هي ومياه البحر سواء في ملوحتها، وبالتالي نخسر هذه النعمة الكبيرة، وقد نجد أنفسنا ونحن نسكن قصورا فارهة ونشرب مياها مالحة .. فهل هذا ما نريده لمستقبلنا ومستقبل عيالنا؟ وهل هناك أثمن من الماء في الحياة ونحن نعيش على صحراء يابسة وسماء صافية ولا أنهار على الأرض ولا غيوم في السماء؟
3 - الجميع يتفق على أن محاربة الفساد اليوم على رأس قائمة الأولويات، ومحاربة الفساد تتطلب أولا القضاء على البيئات الفاسدة التي تهيئ العوامل المساعدة لانتشاره، وبقاء العقار على حاله ومن غير تنظيمه فإنه بالتأكيد يخلق بيئة فاسدة وسينتشر الفساد منه إلى القطاعات الأخرى. ليس المقصود بهذا الكلام المطالبة بمحاصرة النشاط العقاري بقوانين وأنظمة تحد من قدرته على النمو والمساهمة الفاعلة في تعزيز التنمية الشاملة عندنا، بل المقصود هو التنظيم لهذا النشاط بحيث نمنع من أن يتحول إلى بيئة فاسدة ومفسدة تبتلع قدراتنا التنموية من أن يكون لها دور في تلبية حاجاتنا.
4 - من يرى ضخامة النشاط العقاري عندنا ومن يطلع على حجم الأموال المستثمرة في هذا القطاع لا يعتقد أننا نواجه أية مشكلة سكانية، وأنه ليس عندنا شريحة سكانية كبيرة ليست قادرة على شراء أراض للبناء عليها، فالعقار كما وصل إليه الحال الآن ربما هو السبب الرئيس الذي خلق عندنا مشكلة الإسكان، فليس من المعقول أن يقتطع ثمن الأرض أكثر من 60 في المائة من ثمن المسكن، فهذا خير دليل على فساد هذا القطاع، ولن تحل مشكلة الإسكان إلا بالقضاء على الفساد في العقار. لقد تحولت تجارة الأراضي إلى مضاربة، والضحية فيها كان الوطن والمواطن، فليس هناك حل لمشكلة الإسكان مع بقاء العقار على حاله.
أخيرا، لقد أردنا أن نبدأ بالعقار في حديثنا عن أزمة الطعام والمياه، حيث إن العقار بات يستهلك الكثير من مواردنا التي من المطلوب أن نوجهها إلى حاجاتنا المهمة التي في مقدمتها يأتي الاستثمار في الأمن الغذائي والمائي. المطلوب أن نحرر الكثير من مواردنا المالية من هذه الدائرة السرطانية المسماة العقار لنوجهها فعلا لما نحتاج إليه اليوم وفي المستقبل، وليس هناك تحد اليوم أكبر من إعداد العدة لتحصيننا غذائيا ومائيا. وفي الحلقة القادمة سنستعرض معالم الأزمة الغذائية التي بدأ العالم يتحدث عنها بصوت عال.