ثقافة التعميم.. ثقافة يختلط فيها الجهل بالظلم
ثقافتنا مثقلة بالكثير من القيم والقناعات والأفكار السلبية، فهناك خليط ثقافي بعضه ورثناه في جيناتنا الثقافية وبعضه أنتجناه بأنفسنا، وكانت المحصلة ثقافة أعطتنا رؤية مشوشة للحياة وشخصيات منشطرة على أنفسها فلا هي تقلع من الماضي ولا هي تعيش في الحاضر ولا هي تنظر إلى المستقبل. فالتحضر هو في الأساس صناعة ثقافية وعندها تكون القيم والقناعات والأفكار محل الاهتمام عند المجتمع الذي يريد النهوض بنفسه، وهي التي يجب فحصها ومراجعتها على الدوام لأن الفشل في كشفها ونقدها وتميز المعوج فيها ومن ثم المحاولة لانتزاعها من الجسد الثقافي يبقي المجتمع أسير تخلفه وتأخره الحضاري. والتعميم هو من تلك القناعات الراسخة في الثقافة العربية وتجدها عند حتى من يتعاطون الشأن الثقافي، تجد هذه الصفة حاضرة في تفكيرهم وخطابهم الثقافي وإن كانت في بعض الأحيان لا تظهر بشكل واضح إلا في وقت الأزمات والتي يفترض أن يكون للمثقف الدور الأكبر في مساعدة المجتمع على تجاوزها لا على إشغال المجتمع بأمور تستنزف طاقته أكثر من أن تقويه. بل الأدهى من ذلك أن تربيتنا الدينية مبنية هي أيضا على التعميم، وإن رجل الدين ولكثرة ما يحيط نفسه بثوابت دينية وهي أغلبها ليس بذلك تراه يتجرأ في تعميم أحكامه على الآخرين ويقدمها للناس على أن عموميتها تنطلق من أنها أحكام إلهية وبالتالي فلا مجال للنقاش فيها وليس هناك خيار إلا الأخذ بها.
مشكلتنا مع الثقافة العربية إنها تريد لعقولنا الكسل والتعميم هو أقل الأفعال أثارة للعقول، فليست هناك مع التعميم حاجة إلى الاجتهاد لمعرفة الأمور على حقيقتها، وليس هناك داع لبذل الجهد في جمع المعلومات والتدقيق فيها وتتبع مصادرها. والتعميم لا يفرض على صاحبه أن يتعب نفسه للاتصال بالطرف المقصود بتعميمه حتى يتسنى له سماع ما يقوله أو الاطلاع على ما يؤمن به وهو قد يكون مخالفا لما قيل عنه وخصوصا عندما تكون هناك أحكام مسبقة صنعتها قراءات مغلوطة للأفكار والحوادث التاريخية ومع وجود نفوس محتقنة بالكراهية المطلقة لكل من يختلف عنها مهما كان نوع هذا الاختلاف, فالاختلاف عندها هو نفسه مبرر للكراهية, وبالتالي فإن الثقافة التعميمية لا تشعر صاحبها بالحرج النفسي والقيمي وهو يتجاوز الحقوق والاعتبارات الإنسانية للطرف المخالف.
فمشكلتنا إذا مع ثقافة التعميم أنها تجمع الشرين, شر الجهل وشر الظلم, فالجاهل لا تسلم حتى نفسه من ظلمه فيكف لا يكون ظالما لغيره؟ ولكن السؤال المهم هو كيف لمجتمعاتنا إن تحمي نفسها من ثقافة التعميم حتى لا تكون مثل هذه الثقافة أداة لتكريس جهلنا وأن لا تكون المبرر الذي يجعلنا ظالمين لبعضنا حتى وإن كنا نعتقد واهمين بأننا ننتصر لقيمنا ومبادئنا؟ هناك الكثير من الأمور التي يجب أن نلتفت إليها في هذا الإطار ومنها:
1- التخندق الطائفي: إن ويلات الطائفية ليست بحاجة إلى براهين فتكفينا مصائب المجتمعات التي اكتوت بالصراع الطائفي في الماضي والحاضر لتثبت لنا أن الطائفية شر مطلق. لا قداسة لشيء ولا حرمة لأحد ولا شعور بالرحمة ولا أحساس بالإنسانية عندما تكون هناك مواجهة واستقطاب طائفي. وثقافة التعميم هي من تحول الحالة المذهبية وهي حالة طبيعية في المجتمعات إلى حالة طائفية تنتج عنها كل أنواع الفتن والتوترات الاجتماعية. فعندما يكون هناك خطاب ثقافي عقلاني يترفع عن التعميم في الأحكام, بل يرفضه ويستنكر من يلجأ إليه فإننا بهذا الخطاب نحصن المجتمع من أن يتحول إلى مجتمع طائفي يكون عنده استعداد لاستيراد الفتن من الخارج وليس فقط إنتاجها محليا.
2- الهروب من الواقع: مشكلة الثقافة العربية بالذات أنها في حالة خصام مع الواقع وهذا يدفعها إلى تجاهل ما يحويه هذا الواقع من تحديات ومشاكل وفرص, فكل مجتمع فيه تلاوين فكرية وتنوعات ثقافية، ومشكلة التعميم أنها تدفع بالثقافة إلى تسطيح هذا الواقع وإلغاء ما فيه من نتوءات وانحناءات حتى يكون من السهل تجاوز هذا الواقع وعدم أخذه في الاعتبار عند تشكيل صور حياتنا, ولكن تسطيح الواقع لا يؤسس لحياة حقيقية, فالمطلوب أن نعيد للواقع موقعه الطبيعي في تفكيرنا وبغير ذلك تكون الحياة صورة من صور الوهم التي قد نراها في الظاهر ولكن أثرها قليل في وجودنا.
3- غياب الحوار: إذا كان الجهل يدفع بالإنسان إلى التعميم فإن ممارسة الحوار تكشف للإنسان الحقائق وتزيح عن فكره الكثير من الأوهام التي قد تجد في ظلام الجهل فرصتها للظهور والاستحواذ على تفكير الإنسان. نحن نشهد كيف أن المجتمعات المتحضرة لا تتخلى عن الحوار حتى في حال عدم وجود أزمة معينة تعيشها لأنها خبرت كيف أن للحوار قدرة كبيرة في تحصينها من أن يتراكم الشك في النفوس والتي قد لا يكون بمقدورها التعامل مع هذا الشك المتراكم عبر الزمن من أن يتحول إلى نار حارقة في وقت حدوث الأزمات, وبالعكس فإن المجتمعات المتخلفة حضاريا والتي تسمح لنفسها وبسبب غياب الحوار أن تعيش على جبال من الشك في النفوس بين مكوناتها الدينية والفكرية والثقافية, تصبح مستعدة أكثر لأن يتحول هذا الكم الهائل من الشك في النفوس إلى نيران تشعل الواقع في وقت الأزمة. فالحوار هو أداة فعالة في تخليص المجتمع من ثقافة التعميم التي تشرعن حالة الظلم في تعامل المجتمع مع بعضه.
4- أنسنة الثقافة: لا يخلو أي مجتمع من اختلافات وخلافات وربما حتى اصطدام في أطروحاته الفكرية والاجتماعية ولكن المشكلة أنه عندما يحدث هذا الاصطدام ويقع هذا الخلاف ونحن نحمل ثقافة ليس فيها إيمان بكرامة الإنسان كإنسان وليس فيها رحمة تمنع الإنسان من أن يتخذ خلافه مبررا له لإسقاط ذلك الآخر المختلف معه ويدفعه إلى انتهاك حرمته وعدم الاعتراف بحقوقه. الأنسنة تعطي للثقافة قاعدة عريضة ومتينة من المشتركات التي تجعل من الصعب على الإنسان حتى في أوج صراعه مع الآخرين أن تكون له لغة تعميمية وخطاب ثقافي تعميمي. ولا يمكن لنا أن نعقد ثقافة على أسس إنسانية متينة ما لم نؤصل كرامة الإنسان في كل أمور حياتنا, لا الطائفة ولا المذهب ولا الاختلاف الفكري ولا التنوع الإثني ولا المناطقي يعطينا الحق في سلب مثقال ذرة من كرامة الإنسان التي منحتها السماء له. فالإنسان الذي يحمل ثقافة إنسانية يكون مجتمعه في مأمن من أن يكون له خطاب ثقافي تعميمي. أما الإنسان الذي لا يحيط ثقافته بسياج إنساني فهو إنسان مخترق من قبل الشيطان والمجتمع لا يكون في مأمن مما قد يدور في نفسه من كراهية وازدراء للآخرين.
5- تغليب المصالح العامة: لا جدال في أن الخطاب الثقافي التعميمي لا يكترث بالمصالح العامة وأنه أداة للذين لا يريدون خيرا بمجتمعاتهم. فثقافة التعميم تعزز حالة الانكفاء على النفس وليس هناك وصفة أحسن من الأنانية لتفكيك وحدة المجتمع. فكلما كان هناك حرص لحفظ وحدة المجتمع وكلما كان هناك تأكيد على أن من مصلحة الجميع أن يحتفظ المجتمع بأمنه واستقراره وكلما جعل المجتمع من مصالحه العامة والمشتركة أولويات لا يمكن التنازل عنها كان هذا المجتمع أقدر على تمييز ما تجلبه الثقافة التعميمية من ويلات وأخطار عليه.
ختاما, صحيح أنه من غير السهل أن يستطيع مجتمع ما أن يصحح ثقافته بين ليلة وضحاها، ولكن من الخطأ أن يسعى المجتمع إلى معالجة ما قد يعيشه من مشاكل وتحديات من غير مقاربة حقيقية للأفكار والقناعات والقيم التي تنتج مثل هذه المشاكل لا بل إنها ربما تكون هي السبب في تحويل مشاكلنا إلى أزمات ومشاكل مزمنة.