المسائل التي تخرج عن اختصاص التحكيم
إنه من المعلوم أن نظام التحكيم الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/46 وتاريخ 12/7/1403هـ قد هدف إلى سرعة الفصل في القضايا وتخفيف العبء عن القضاء من خلال الفصل في منازعات يتم الاتفاق بين أطرافها إلى اللجوء إلى آلية التحكيم، إضافة إلى المزايا الأخرى التي يحققها النظام، إلا أن هناك عدة قضايا وأمور تخرج من حيث الفصل فيها عن اختصاص التحكيم، حيث أبان نظامه ولائحته التنفيذية جميع تلك المسائل والأمور التي لا يجوز الفصل فيها من خلال التحكيم، كما أوضحت بصفة تفصيلية كذلك الحالات التي لا يحق إخضاعها إلى التحكيم.
إن المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم قد أوضحت الأمور التي لا يجوز فيها التحكيم حيث جاء فيها: (لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، كالحدود واللعان بين الزوجين وكل ما هو متعلق بالنظام العام).
كما أن هناك استثناءات أخرى غير خاضعة للتحكيم أفاضت المادة الثانية من النظام ذاته في تناولها إذ أوردت (... ولا يصح الاتفاق على التحكيم إلاّ ممن له أهلية التصرف)، كما أوردت المادة الثانية من اللائحة التنفيذية للنظام أنه (لا يصلح الاتفاق على التحكيم إلاّ ممن له أهلية التصرف الكاملة ولا يجوز للوصي على القاصر أو الولي المقام أو ناظر الوقف اللجوء إلى التحكيم ما لم يكن مأذوناً له بذلك من المحكمة المختصة).
ونخلص من كل تلك النصوص السابقة إلى مبدأ أنه لا يتم اللجوء للتحكيم في المسائل والأمور التي يجوز فيها الصلح أو تلك المتصلة بالنظام العام، حيث أوردت المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم ــــ على سبيل المثال ـــــ بعض تلك الأمور التي لا يجوز الصلح بخصوصها، وذلك ينسجم مع تطبيق الأسس والمبادئ العامة في الشرع الحنيف لدى تحديد أبعاد تلك الأمور، حيث إن الصلح وعلى نفس معيار التحكيم لا يتمان في مسائل الحق المحض للمولى ــــ سبحانه وتعالى ــــ كالتفريط أو الاستهتار في تطبيقه مثل العقوبات المنصوص عليها في جرائم الحدود، حيث إن تلك العقوبات تم إقرارها للمصلحة العامة ولصون المجتمعات وليست لمنفعة فرد، وبذا لا يجوز أن تخضع للصلح أو التحكيم لأهميتها الكبيرة وخشية أن يتم التهاون في الحكم بها أو تطبيقها، لأن هذا الأمر ينطوي على مخالفة لما أقره المولى، سبحانه وتعالى، لذا فإن مثل هذه الأمور يجب ألا يتم النظر فيها إلا من قبل القاضي صاحب الولاية العامة في ذلك الأمر.
ومن ثم لا يجوز التحكيم في القضايا التي يكون فيها حق للمولى ــــ عزّ وجل ــــ وحق للعبد، سواء كان فيها حق الخالق هو الغالب كحد القذف أو حق العبد هو الغالب كالقصاص والتعزير، وبذلك ينعقد الاختصاص القضائي بنظرها إلى المحاكم صاحبة الولاية العامة دون غيرها.
واستناداً إلى ذلك، فإن التحكيم لا يصلح إلاّ فيما هو حق خالص للعبد، شريطة عدم مخالفة هذا الحق للكتاب والسنة والإجماع، وألا يكون متصلاً بحق شخص آخر خارج عن دائرة الخصومة، والسبب في جواز التحكيم في الأمور المتعلقة بالحق الخالص للعبد نجدها في المطالبة أو التنازل عن هذا الحق باختياره، ومن هنا فإنه لا يصح الاتفاق على التحكيم لدى تحديد المسؤولية الجنائية الخاصة بثبوت ذنب شخص ما من عدمه، أو تحديد العقوبة الجنائية الجزائية التي تطبق على الجاني، سواء كانت قطعاً أو رجماً أو قتلاً أو جلداً أو سجناً.
إن أعمال آلية التحكيم كذلك لا تجوز في أمور مثل تحديد أهلية شخص ما من عدمها، وبلوغه سن الرشد أو اعتبار الشخص وارثاً أو خلافه وفي نسب شخص معين أو إنه غير شرعي أو متبنى، إلى جانب عدم اختصاص التحكيم بمسائل الأحوال الشخصية من حقوق الطلاق أو الحضانة الخاصة بالأطفال وحقوقهم الشرعية، وذلك على خلاف المسائل الشخصية المترتبة عليها حقوق مالية، والقصد من ذلك أن المستفيد من هذه الحقوق يكون له الحق في تنازله عن تلك الحقوق برضاه واختياره، فعلى سبيل المثال، فإن المولى- عزّ وجل- قد فرض حق النفقة للزوجة فلا يجوز اللجوء للتحكيم في مسألة إقرار هذا الحق المحسوم.
أما الشق الثاني المتعلق بتلك المسائل الخاصة بالنظام العام، التي لا يجوز اللجوء فيها إلى التحكيم بأي حال من الأحوال، فهي تلك المتصلة بالقواعد الخاصة بالمصالح العامة والعليا للمجتمع واستقرار وعدالة أفراده، ويدخل في دائرة النظام العام في المملكة نصوص الشرع الحنيف في المجالات كافة، وكذلك الأنظمة السائدة بمختلف أنواعها ولا يُعتد هنا فيها بالتحكيم، ويعتبر باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته للنظام العام، حيث يدخل هذا الجانب في صميم دائرة القضاء وحده، والحكمة في هذه المسائل بالمصلحة العليا للمجتمع.
لذا يجب إخضاعها لسلطان القضاء بصفته صاحب الولاية العامة في ذلك، ولما يشكله ذلك من ضمانة بعدم المساس بحق المجتمع وأفراده ومعيار المساواة في تطبيق مبادئ النظام على أفراد المجتمع كافة. وبناء على ذلك لا يجوز التحكيم في أمر منح الجنسية أو إسقاطها عن الأشخاص، أو تعيين الموظفين أو إقالتهم أو رد القضاة أو عزلهم.
ونرى أن ما ذهب إليه نظام التحكيم فيما يتعلق باستبعاد بعض المسائل من الخضوع لنظامه يُعد من الأمور المحمودة، إذ تتطلب هذه الأمور بالفعل إجراءات خاصة بها تكفل تحقيق الردع العام والخاص وهذا ما لا يتوافر في نظام التحكيم.