العولمة وجدلية الروحي ـــ المادي

أُنزلت الشرائع السماوية، وصيغت القوانين الوضعية، لحفظ النفس البشرية، وتأمين متطلباتها وتوازنها بما يتلاءم مع فطرتها.. إلا أن اتساع تأثيرات العولمة أدخلت، بأحادية قوانينها الوضعية، على أنماط الحياة الإنسانية شوائب قهرت النفس البشرية، في محاولة حثيثة لتوجيهها وجهة مادية بحتة.
واللافت للنظر، أن محاولات تشذيب ما علق في النفس البشرية من شوائب هذا التسارع المذهل والمقلق للعولمة لا تزال ضعيفة، واختلط فيها الغث والمفيد، الأخروي والدنيوي، الاعتدال والتطرف، نتيجة تسارع وتيرة المستوى المادي للحياة على حساب المستوى الروحي، مما ضيَّق من مجال الاسترخاء العقلي والروحي.
وكان للتقدم التكنولوجي السريع وقعه في هذا التيه المادي، إذ فاقت سرعته سرعة نبضات القلب، ليؤدي، أو يكاد، إلى تغييب "القناعة"، فلم يعد "الاكتفاء" ملاذاً في عجلة الحياة الحاضرة ويا لسرعتها! حتى الأحلام، خاصة أحلام اليقظة، أصبحت سريعة، وهي التي كانت تتطلب وقتاً وبعض الهدوء!
رحم الله الأجداد، اقتصرت حاجاتهم على: يوم أو شهر أو سنة، وهم في تواصل اجتماعي وعبادة، ولكن، مع هذه العولمة الشرسة "شطحت" الأحلام نحو تملك منزل على القمر. لم يعد الإنسان يحيا لنفسه وإن كان يعتقد ذلك.. بل أصبح أسيراً لعولمة كل شيء، وامتلاك كل شيء!
هجمة مادية سببت اختلالاً في النفس لاقتصارها على تلبية الحاجات المادية، ليصبح النشاط الإنساني معقداً، يلزمه الكثير من التفنن والتخصص لسبر غور جدلية الروحي - المادي، الفطري والمُكتسب، في محاولة لإعادة الروحي كطرفٍ مهم في تحقيق توازن الشخصية الإنسانية، خاصة أن الفطرة أصيلة والمكتسب حادث.. إذ إن الفطرة لا تحتاج إلاَّ لمسح الغبار عنها، قد تُغيَّب ولكنها لا تموت، أما المكتسب فيحتاج إلى تشذيب دقيق ليساير الفطرة، يؤدي ذلك إلى تقوية المناعة لدى هذه النفس وفطرتها، تجاه ما هو مادي مؤثر، مما يؤدي إلى عودة الصفاء للذهن، نتيجة عودة التوازن بين الروحي والجسدي، لتحقيق رغبات إيجابية، هي بطبعها فطرية، مقابلة لتلك المكتسبة غير الصحية، والمتولدة نتيجة قهر "العولمة" وتأثيرها على بيئات الحاضر، إنها عملية توازن، ومن ثم غلبة التوازن، أي غلبة الفطرة، كأصل، على الاختلال كحادث.
وهذا الأصل يساعد على تهذيب النفس بالإيحاء الكلامي والنفسي، ورؤية متقدمة تتجاوز الشخص كحالة حاضرة "الآن"، تتجاوز السلبيات إلى مرحلة متقدمة تشذَّب فيها هذه السلبيات وترسَّخ فيها الإيجابيات.. إنها عملية معقدة، ولكنها بسيطة بساطة الفطرة، يستطيع أن يقوم بها من أوتي "قناعة" و"علماً"، من أوتي صبراً وجلادة، وربما احتاجت إلى موهبة واستعدادات شخصية فُطر عليها كل إنسان، فتجلَّت في أحدهم ولم تتجلَّ في الآخر!
إن الروح ذات طبيعة معنوية غير ملموسة، هي أساس الوعي والإدراك والشعور والأخلاق والتدين، وغير ذلك.. تختلف عن الجسد المُتطلب للتراب وما حَضَن، فالروح خالدة والجسد فانٍ.. والعقل عاجز عن إدراك معرفة الروح .. فما أوتينا من العلم إلا قليلاً، فاللروح تعظيم كونها المحرك الأساسي للجسد وتقلباته على وجه الأرض.
وأقول: من راقب روحه رجع عن سوء جسده وما قد صنع، ما طار جسد وارتفع إلا كما طار وقع! فاعرف، أيها القارئ العزيز، حق روحك عليك: فلا خير فيمن ينكر حقها إذا حقَّ لها الحق! فما الحياة السعيدة والآخرة المجيدة إلا توازن بين روح وجسد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي