الإفصاح يا.. عقد المليارات الخمسة
قبل حوالي أربعة عقود بدأ اهتمامي بقطاع الطاقة وتوليد الكهرباء في المملكة عندما ساهمت مع بعض الباحثين في جامعة MIT عام 1391هـ في إعداد ونشر دراسة مقارنة للفرص الاقتصادية المتاحة لاستغلال الغاز الطبيعي الذي كان يُحرق يومئذ عند أفواه آبار النفط. و في مطلع حياتي العملية في العام الذي تلا نشر تلك الدراسة شاركت في إعداد الجزء المعني بالطاقة في خطة التنمية الثانية. ثم توثقت تلك العلاقة فيما بعد بذلك القطاع عندما تشرفت في عام 1397هـ برئاسة مجلس إدارة شركة كهرباء تبوك ممثلا للحكومة بعد أن أصبحت مالكة لغالبية رأس مالها عوضا عن القروض التي قدمتها للشركة.
تلك العلاقة كانت حافزا لي في متابعة ملف الطاقة في المملكة ولا سيما فيما يخص توليد وتوزيع الكهرباء. كما أن تجربتي القصيرة والمتواضعة في شركة كهرباء تبوك جعلتني أدرك أهمية وضخامة الجهد الذي يبذله القائمون على إدارة و تشغيل مرفق الكهرباء إلى حد بلغ أنني أشعر بالفخر لإنجازاتهم وهي كثيرة.
وفي سياق تلك المتابعة أثار دهشتي الخبر الذي نشرته ''الاقتصادية'' يوم الخميس الماضي الموافق 26/6/1433هـ تحت عنوان (''الكهرباء'' توقع عقدا بـ 4.7 مليار لإنشاء المحطة الـ 12 في الرياض). إذ جاء الخبر مقتضبا و فقيرا في محتواه الذي اقتصر فقط على قيمة العقد، طاقة المحطة، موقعها، وفترة تنفيذها. ويبدو أن صياغة الخبر لم تكن وحدها التي خضعت لإخراج جيد، بل كذلك الصورة المرافقة للخبر التي اختيرت باحترافية أخفت، ربما عن غير قصد، معالم اثنين من الأشخاص الثلاثة الذين يفترض أن من بينهم طرفي العقد. وما يُرجح أن صياغة الخبر من إعداد الشركة السعودية للكهرباء نفسها هو أنه يكاد يكون مطابقا للخبر الذي بثه موقع ''تداول'' بتاريخ 25/6/1433هـ.
لا أرى مبررا للتعتيم وعدم الإفصاح عن تفاصيل مشروع بذلك الحجم الكبير في قطاع يمس حياة المواطنين والمقيمين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات إنتاجية أو خدمية. وكان جديرا بالشركة السعودية للكهرباء أن تفصح عن اسم وعنوان الشركة التي أسند إليها العقد كي يتواصل معها الباحثون عن العمل بشكل مباشر أو عن طريق وزارة العمل قبل أن تلجأ تلك الشركة إلى سوق العمالة الأجنبية، وهي قضية مهمة لارتباطها بملف توطين الوظائف. ثم هناك قضية أخرى لا تقل أهمية عن ذلك الملف وليست ببعيدة عنه وهي مساهمة المصانع الوطنية وتطلعاتها في الحصول على قطعة من الكيكة. ماذا عن احتياجات المشروع من المنتجات المعدنية من حديد وألمونيوم، الأسمنت ومنتجاته، المواد الكهربائية، أنظمة التكييف، وغيرها.. هل حُسمت تلك الأمور قبل تقديم العطاءات أم أنها ستطرح في منافسات عامة لإتاحة الفرصة أمام جميع المصانع الوطنية المؤهلة؟
تلك التساؤلات وغيرها تستحق أن تتناولها الشركة بعناية بعيدا عن ردود الفعل التقليدية والبيانات الإنشائية، لا سيما وأنها شركة مساهمة تملك الحكومة نحو 75 في المائة من رأسمالها وتعد من الشركات القيادية المدرجة في السوق ما يضع عليها عبئا في الإفصاح أكثر من غيرها.
ثم هناك تساؤلات حول المحطة نفسها إذ جاء في الخبر الذي أعدته الشركة أن قدرتها 2175 ميجاوات، أي أن تكلفة الميجاوات الواحد نحو (2.16) مليون ريال، و لم تكمل الشركة تلك المعلومة بمقارنة ذلك الرقم بما دفعته في مشروعاتها الأخرى أو تكلفة المشروعات المماثلة في الدول المجاورة. كما ذكرت الشركة في بيانها أن المحطة '' تعمل بنظام الدورة المركبة مما يعني أنها لن تستهلك أي كميات إضافية من الوقود..'' وهو توجه في ظاهره جيد، غير أنه يصعب استيعابه على غير المتخصص، وحبذا لو أن الشركة وضعت ذلك في إطار رفع كفاية التوليد وبسطت أمام القارئ بالأرقام الوفر الذي سيتحقق في استهلاك الوقود مقارنة بالتقنيات الأخرى، وأثر ذلك على تكلفة الإنتاج، والمنافع المالية التي ستتحقق للمساهمين والمشتركين.
لا شك أن الفضاء الواسع الذي نعيش فيه اليوم لتبادل المعلومات قد ساهم في رفع سقف الإفصاح المطلوب من كل اللاعبين في الساحة العامة وفي مقدمتهم المؤسسات والشركات المساهمة، وأحسب أن هيئة السوق المالية ووزارة التجارة والصناعة، وغيرهما من جهات رقابية وإشرافية ستتعامل مع تلك المستجدات بإعادة صياغة مفهوم الإفصاح ومتطلباته لتعريف المواطن وإتاحة فرص أكثر أمامه. وليت الشركة السعودية للكهرباء تغتنم فرصة مشروع المحطة الجديدة وتبادر بتقديم مثال في الإفصاح يقتدي به الآخرون.