رؤية لمواجهة المشاريع المتعثرة
قبل أعوام عدة، وفي ذروة القلق من الأزمة المالية العالمية، تعهّد خادم الحرمين الشريفين أمام قمة العشرين أن تنفق الحكومة السعودية 400 مليار دولار خلال أربعة أعوام، وذلك من أجل دفع عجلة النمو في المملكة والاقتصاد السعودي، وهو الذي بدوره سيقوم بالتأثير في حركة الاقتصاد العالمي، واشترطت الحكومة السعودية أن ذلك الإنفاق سيتم على مشاريع داخلية، لقد كان ذلك الإعلان بمنزلة تحدٍ كبير، فقدرة المقاولين والمؤسسات على تنفيذ المشاريع والإنجاز خلال السنوات التي سيتم فيها ضخ كل تلك السيولة أصبح على المحك. لم يخلف خادم الحرمين وعده لا للعالم ولا للوطن، وخلال السنوات الماضية تمتعت الميزانية العامة للدولة بإنفاق غير مسبوق، نالت المشاريع نصيب الأسد، وفي شتى المجالات من مدن جامعية ضخمة في كل المناطق، إلى طرق وأنفاق وجسور وسكك حديدية، ومن مدارس إلى مستشفيات حتى الأجور طالها الكثير من التغيير، خلال الفترة الماضية. وأصبحت المملكة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها تمثل ورشة عمل كبرى. تحدٍ ضخم واجه كل مسؤول في كل قطاع وتخصص ومنطقة. ولعل تلك العبارة التاريخية التي قالها الملك - حفظه الله - لم يزل يتردد صداها في الآفاق، عندما قال مخاطبا كل مسؤول «انجزوا لنا مشاريعنا، لم يعد لديكم عذر».
نعم أوفى الملك بوعده للأمة، لكن التحدي كشف الكثير من المشكلات الإدارية الضخمة، ونتج عن هذه التجرية الكبيرة التي خاضتها المملكة طوال السنوات الماضية، أن المشكلة ليست في التمويل كما كان يدعي ويبرر من قبل الكثير من المؤسسات والمسؤولين، بل لعل أكبر قضية هي النقص الحاد في مفهوم إدارة المشاريع. فبعد كل هذا الإنفاق الضخم الذي تجاوز مدى السنوات الأربع، بل امتد حتى اليوم، هناك الكثير من المشاريع المتعثرة في كل منطقة وركن، وبعد ست سنوات من الإنفاق الهائل والتاريخي وغير المسبوق «وقل ما شئت في ذلك» هناك أكثر من ستة آلاف مشروع متعثر رغم تضارب الإحصائيات ونقص الشفافية في هذا الجانب، خاصة أن مفهوم المشروع المتعثر لم يتم تحديده بشكل واضح، فالبعض يحصي تلك المشاريع المتوقفة فقط على أنها مشاريع متعثرة، لكن لو أضفنا تلك المشاريع التي لم ترَ النور بسبب مشكلات إدارية ومشاريع بدأ المقاول يطالب بالتعديل في المواصفات، وغيرها من المشكلات التي يمكن أن تصنف متعثرة لكنها لم تقف بعد، لو أضفنا كل ذلك مع تلك المشاريع التي تم تسليمها وهي غير صالحة للاستخدام أو تحتاج إلى إعادة صيانة وتأهيل لأصبحنا أمام رقم كبير جدا.
ورغم النقاش الذي استمر سنوات حول الأسباب الكامنة خلف تعثر المشاريع، فقد شرق البعض منا وغرب البعض الآخر ولم نلتقِ على كلمة سواء لحل هذه المشكلة الكبيرة، بل الخطيرة، وعقدت من أجل فهم هذا الموضوع ملتقيات ومؤتمرات ولقاءات عدة، ولعل أكثر تلك التصريحات وضوحا في هذه المشكلة ما صرح به رئيس هيئة مكافحة الفساد قبل أكثر من عامين، وذلك في أول ظهور إعلامي له عندما لخص الموضوع في أربع مشكلات، أولاها عدم الاعتناء بإعداد مواصفات المشاريع وشروطها قبل طرحها للمنافسة، والثانية تكمن في إسناد الأعمال من الباطن والثالثة في ضعف الإشراف على المشروعات سواء تم الإشراف ذاتياً من قبل الجهة المالكة أو خارجياً من قبل استشاري، والرابعة في ضعف كفاءة أعضاء لجان الاستلام الابتدائي والنهائي للمشاريع. لكن لم يكن هناك حل، ولعل هذا يفسر لماذا لم نجد فاسدين تم القبض عليهم كمصدر للتعثر، فالمشكلة ليست في شخص فاسد، بل في عدم وجود نظام شامل لإدارة المشاريع الحكومية. ولعل هذا ما تنبه إليه خادم الحرمين الشريفين منذ بدأت عوامل المشكلة في الظهور فأمر بتشكيل لجنة من سبع جهات حكومية لمتابعة تنفيذ المشاريع التنموية، على أن تنهي أعمالها المتعلقة بكل مشروع خلال مدة لا تزيد على شهر. بالطبع تم تشكيل اللجنة وفي جميع المناطق، لكن لم نسمع الكثير عن نتائج أعمال تلك اللجان. وهكذا بقيت المشكلة تنمو، والتعثر مستمرا، والإنفاق الحكومي في أعلى مدى له ويتعاظم من سنة إلى أخرى، وبينما ينمو ملف تعثر المشاريع في كل وزارة مع نهاية كل عام مالي تأتي الميزانية بالموافقة على مشاريع جديدة، لتتزايد ملفات المشاريع في كل وزارة، بينما يتحدد عدد المقاولين المؤهلين للتنفيذ، ما اضطر العديد من الوزارات وكسبا للمبالغ المرصودة في الميزانية إلى ترسية المشاريع الجديدة على مقاولين متعثرين في مشاريع سابقة، فاختلط الحابل بالنابل، فالمشروع المتعثر متعثر بسبب مقاول غير قادر على الإنجاز وفي الوقت نفسه المقاول مؤهل للمنافسة على مشروع جديد ولدى الوزارة نفسها، فيزيد التعثر، وتتحول المشاريع من أرقام في الميزانية إلى أرقام في المتعثرة، بينما الحال كما هو في أرض الواقع، أسوار، وحواجز خرسانية أصبحت تضيق بها الطرق والأحياء كدليل على وجود مشاريع لا حياة فيها.
وأخيرا، ووفقا لعدد من المصادر فقد أصدر المقام السامي قرارا بمنع ترسية المشاريع الحكومية على شركات معينة، أو طرحها في منافسات محدودة. مرة أخرى يستشعر الملك أن المشكلة تكمن في القدرة على إدارة المشاريع، وأن هذه المشكلة تحتاج إلى متابعة دائمة وقرارات تصحيحية، فقد تزايدت طلبات الجهات الحكومية بالاستثناء من أحكام نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، وطلب ترسية مشاريعها على شركة معينة، أو طرحها في منافسة على عدد محدود من الشركات. ولا مبرر هنا، فمع ضخامة المشاريع وعددها فمن المستحيل لهذه الشركات أن تنفذ فعليا كل هذه المشاريع، فهي تقوم في الواقع بإعادة طرحها من الباطن على مقاولين غير ظاهرين فعليا للمتابعة أو المساءلة، لكن القرار السامي يعيد ترتيب الوضع ويمكّن الشركة من الباطن أن تنافس بالسعر الأقل وتظهر مباشرة في الصورة كمنفذ فعلي للمشروع، بدلا من تضخيم أسعار تكلفة المشاريع من خلال أرباح وهمية لشركات محدودة لم تفعل سوى إعادة طرح المنافسة. وهذه خطوة صحيحة لكنها تحتاج إلى إعادة النظر في نظام المشتريات الحكومية، حيث إن المنافسة بالسعر فقط يجعل مقاولين غير جديرين بالعمل يحصلون على مشاريع كثيرة تتعثر بهم عند حملها جميعا. وهذه النتيجة أكدها المراقب المالي في وزارة المالية من خلال إشارته إلى وجود ثغرات في نظام المنافسات والمشتريات الحكومية والمعروفة بـ «المناقصات»، مؤكدا أن مواضع خلل سهّلت ارتكاب مخالفات تندرج تحت الفساد وشبهاته.