أزمة الإدراك الحسي والحل الحداثي

لو تأمل المرء العالم حوله لاكتشف أنه لا يرى الحقيقة أبدا، فأنا قد أرى الثعبان يرقص على نغمات مزمار مروضه فأحكم أنه يسمع، لكن العلماء يثبتون أنه أصم، كما أني قد أحضر إلى مبارزة الثيران المشهورة في إسبانيا وأقول إن الثور يرى الألوان ما دام أنه يستفز باللون الأحمر إلا أنني أفاجأ بالعلم يخبرني أنه لا يرى إلا الأبيض والأسود. وإذا ما رأيت اللون الأبيض أعجز تماما عن إدراك كونه مركبا من سبعة ألوان تدعى ألوان الطيف.

أما إذا سألتني عن الخفاش فسأصنفه مسرعا ضمن فصيلة الطيور، لأكتشف أنه ينتمي إلى جنس الثدييات.. إن هذه اليقظة المفرطة تجاه زيف الحواس وعدم تبليغها الحقيقة بدأت بوضوح تام مع الثورة الكوبيرنيكية، إبان القرن السادس عشر، لأنها باختصار نبهتنا إلى أن الأرض التي تحملنا، التي اعتقدنا لقرون عديدة أنها ثابتة، هي مأخوذة في عالم دوار، لا أستطيع بحواسي أبدا أن أدركه، وهو ما تجسد أيضا مع ديكارت خلال القرن السابع عشر، الذي عمق الإحساس بأزمة الإدراك هذه، إلى درجة أنه أعلن أن الحواس ليست أداة معرفة والأمر موكول للعقل وحده، وبهذا المعنى نفهم عقلانية ديكارت .. فكيف ﺫلك؟

ينطلق ديكارت في كتابه "العالم" من فكرة تعد جوهر فلسفته وهي: كون الإحساس لا يطابق الواقع، ولا يعطي صورة أمينة عنه، فإذا كانت العين المجردة ترى الشمس قريبة، فالذات (العقل) تصحح هذا الخطأ عن طريق الحسابات الرياضية، كما أن الأرض التي تبدو حسيا ثابتة، لا يمكن معرفة كونها تدور إلا بتدخل الذات عن طريق الافتراض العقلي، يقول ديكارت: "لو كانت حاسة السمع تحمل إلى فكرنا الصورة الحقيقية لموضوعها، لكان يجب أن تجعلنا بدل أن ندرك الصوت، أن نتصور حركة أجزاء الهواء الذي يرتجف، بناء على ذلك بإزاء آذاننا." فالمرء حقا، وكما يقول ديكارت، يسمع الصوت نعم، لكن لا يسمع الذبذبات أو الموجات الموصلة للصوت في الوسط المادي، فهذه الأخيرة وليدة الﺫهن ونتاج من نتاجا ته.

#2#

إن المرء إذ نعليه أن يستعين بالعقل أو بالاستدلالات الهندسية ليرتقي بالحكم الحسي إلى مرتبة الحقيقة، لذلك نجده يقول في جهة أخرى: "تبدو لنا الأرض بادئ ذي بدء أكبر بكثير من كل الأجسام الأخرى الكائنة في العالم، كما يبدو القمر والشمس أكبر من النجوم .. لكن إذا صححنا نظرنا باستدلالات هندسية لا تخطئ، فسنجد أن القمر أصغر من الأرض وأن الشمس أكبر من الاثنين بكثير .. وسنعرف أيضا، بتوسط العين التي يساعدها العقل أن المشتري يبعد عن الشمس أكثر من مائتي ضعف قطر الأرض ... إلخ."

إن المثير في كلام ديكارت هو عبارة: "العين التي يساعدها العقل". إنها ذات حمولة كوبيرنيكية واضحة، فالعين باعتبارها" نافذة على الموضوع" تنقل لنا العالم الطبيعي كما هو (جاهزا)، وغالبا بشكل مزيف، وهنا لا بد من نجدة العقل فهو الوحيد المؤهل كي يصوب خداع الحواس رياضيا. وهنا نفسر لماذا هذا التبجيل للعقل من طرف ديكارت ووضعه في مكان الصدارة، وجعله مركزا وثابتا وأساسا جديدا في المنظومة الحديثة التي بدأت رحاها فلكيا، فالحواس لم تعد مصدرا للمعرفة قط. فإذا كانت الحواس تنقل لنا العالم غير دقيق، باعتبار أن: الإحساس ليس هو الشيء المحدث له، كما يقول ديكارت نفسه، فيجب إذن إعطاء المهمة للعقل فهو القادر وحده على التحليل والتركيب، على الترتيب والتنظيم، على التمحيص والتدقيق ومن ثم التصويب، لنصل في النهاية إلى الحقيقة، حقيقة العالم الخارجي بطريقة رياضية، وهي الطريقة التي كانت شبه غائبة ما قبل كوبرنيكوس.

إنك عندما تضع عمودا في الماء، فسيبدو لك منكسرا ومعوجا، وإذا ما قمت بإخراجه فسيبدو لك مستقيما، وهﺫا يوضح لك كم أن الحواس تدخلنا في إدراك مبعثر، وإذا ما اكتفيت بما تراه لن تجد تفسيرا مقنعا لهذا التناقض، ولا مخرج لديك من هﺫا المأزق الإدراكي إلا بالعودة إلى العقل وﺫلك من خلال عملية تدقيق وضبط وترميم وتعديل، فديكارت نفسه وهو من لديه مساهمته المشهورة في علم البصريات قد فسر لنا هﺫا المشهد انطلاقا من استيعاب مفاده، أن الضوء الموصل لصورة العمود قد انتقل أثناء إدخال هﺫا العمود من وسط الهواء بمعامل انكسار أقل، ليصطدم بالماء بمعامل انكسار أكبر، فما على الضوء إلا أن ينكسر، فهذا التفسير لا تقدمه العين، بل يقدمه العقل المنهجي الصارم. فالحقيقة هنا نقول عنها إنها قد صنعت في دهاليز الذهن، لذلك فهي ليست جاهزة.

إن تصور ديكارت هﺫا هو الذي يفسر لنا لماﺫا ما نراه نحن يكون في واد وما ينجزه العلم يكون في واد آخر؟ فالجواب أصبح واضحا الآن، وهو أن العلم قد قطع تماما مع الحواس فهي مضللة ولا تنقل العالم بأمانة، والتعويل عليها لن يمكننا من الحقيقة. إلى درجة أن الحقيقة العلمية أصبحت مضادة للبدهي وتخرج عن دائرة الممارسة اليومية بشكل مفاجئ ومربك أحيانا، فالمرء وكما هو معلوم يبدأ حياته بتصديق أن حقيقة الأشياء هي ما يراه، ليكتشف أن تصوره هﺫا مجرد واقعية ساذجة، فنحن نظن أن الأخضر أخضر وأن الحجر صلب وأن الثلج بارد. ولكن علم الفيزياء يعلمنا أن اخضرار الحشائش وصلابة الأحجار وبرودة الثلج ليست هي ما نعرفه بممارستنا، بل هي شيء مختلف تماما.

ولو كان العلم بدهيا وسهلا وعفويا، لما احتاج إلى كل هذا الجهد المعروف الذي يبذله العلماء، فهم كما نعرف ينفقون سواد الليل وبياض النهار من أجل سبر أغوار المجهول وهتك أسرار المبهم. بكلمة واحدة أصبحت الحقيقة العلمية تصنع وليست جاهزة.

لكن كيف تنبه الإنسان إلى أنه مخدوع وأن طرق البحث عن الحقيقة القديمة لم تعد مجدية! ما الطارئ المفاجئ الذي جعله يستفيق ويقوم بمسح الطاولة جذريا؟ هﺫا ما حاولنا إيجاد حل له مع كل من كوبيرنيكوس وديكارت فهما من كان لهما الفضل الكبير.

* أستاذ مادة الفلسفة ـــ المغرب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي