العقل ما بين امتلاكه وحسن استخدامه

قد يتساءل المرء: لماﺫا لا أقدر أن أكون عالما بسهولة؟ ولماﺫا العلماء يعلنون نتائج تبهرني ولا أستطيع مواكبتها؟ هل العالم يتجاوزني ويتفوق علي بعبقريته ومواهبه الفذة؟ لكن أليس "العقل هو أعدل قسمة موزعة بين الناس؟" كما يقول ديكارت " -1596 1650". وإذا ما كنت أمتلك نفس العقل مع العالم، فلماذا أنا لست مثله؟ ولماﺫا لا أقدر مثلا، أن أرى في ورقة الشجرة الخضراء التركيب الضوئي؟ بينما العالم يتمكن من ﺫلك. للفيلسوف ديكارت محاولة جواب على هذه المفارقة، وهي كون أن العقل ليس العبرة فيه امتلاكه، بل حسن استخدامه.
يقول ديكارت في كتابه "مقال في المنهج، لحسن قيادة العقل" وهو يصف حالته أثناء بحثه عن الحقيقة: "مثلي كمثل رجل يسير وحده في الظلمات، عزمت على أن أسير الهوينى، وأن أستعين بكثير من الاحتياط في كل الأمور، فلو لم أتقدم إلا قليلا جدا، كنت على الأقل، قد سلمت من الزلل والسقوط".
إن ديكارت الذي عاش أزمة إدراك حسي جراء الانقلاب الفلكي، أي الانتقال من مركزية الأرض نحو مركزية الشمس، جعلته يعيد طرح سؤال الحقيقة، حقيقة العالم الخارجي الذي لا يبوح بسره هكذا بتلقائية وبمجرد النظر إليه. فهو عندما يشبه نفسه بمن يتحرك في الظلام الحالك فإنه يعبر عن ريبته وشكوكه وعن زعزعة قوية تهدد أفكاره السابقة، لكن يذكر أيضا أنه اتخذ قرارا بعدم التسرع والعمل بتؤدة وبهدوء تام وألا يسرع في خطواته كي لا يسقط. إن إﺫا الكلام البلاغي يقصد به ديكارت مباشرة، العقل، فهو "أي العقل" عندما يريد التعرف على حقائق العالم يتسرع ويكون مندفعا دون ضوابط كابحة، فيسقط في الخطأ، كما أنه عقل دون حدود تلجمه، يقبل الجاهز دون تمحيص ويستقبل من الحواس المعطيات دون غربلة ... وكأن ديكارت يريد أن يقول: نعم، إن الناس تمتلك العقل جميعا، لكن هو عقل مندفع و"كسول" يحتاج إلى المحاكمة والضبط، يحتاج إلى الانتباه واليقظة، باختصار مع ديكارت سنفرق ما بين العقل الذي نمتلكه والعقل الذي نحسن استخدامه بجهد وبإرادة كاملة، أي العقل المنهجي.
ولمزيد من التوضيح، سنتحدث الآن عن تجربة ديكارت الخاصة في البحث عن الحقيقة، كما يحكيها للقارئ في كتابه "تأملات ميتافيزيقية"، فيقول إنه قد انتبه منذ نعومة أظافره إلى أنه تلقى مجموعة من الآراء الخاطئة وقبلها على أنها صادقة وحقيقية وهو ما جعله يتخذ قرارا حاسما وهو: ضرورة الشك ولو مرة واحدة في الحياة، قصد وضع كل ما تم تكوينه في الطفولة من أفكار في محك السؤال، خاصة أن الإنسان يكون وهو صغير غير مستكمل لقواه العقلية ومسيرا خلال فترة طويلة من طرف أهوائه ومربيه. فديكارت إذن أصبح وفي سن مبكرة من حياته واعيا بضرورة البحث عن خطة عمل لقيادة العقل نحو الصواب والوضوح والسير بثبات كي يتمكن من تمييز الصحة عن الخطأ، لكن هذا العمل بدا له شاقا وضخما وصعب المنال، فهدم الأفكار الملقاة ليس بالأمر الهين، فالآراء المكتسبة في الطفولة هي من الرسوخ بحيث يصعب زعزعتها، لذلك قرر أن ينتظر حتى يبلغ سنا معينة يكون فيها قد بلغ النضج العقلي الكافي لمباشرة هذا العمل الكبير، أي هدم القديم وبناء الجديد، فمثله كمثل من يهدم بيتا من أساساته ويريد إعادة بنائه من جديد. والآن وهو يعتقد في نفسه أنه قد بلغ السن المطلوبة، وتخلص من كل القيود وحقق لنفسه الراحة الطويلة اللازمة لاختمار أفكاره "فليس أضر على الفكر من العجلة والإجهاض قبل الأوان، فمخاض الفكر الحقيقي يأخذ وقته اللازم كي يكون المولود سعيدا لا معوقا ..." قد أصبح مستعدا تماما لتقويض كل القديم، وتوجيه هجوم وضربات موجعة له. وبما أن هذا العمل يقوم به مهندس واحد وهو ديكارت والعمر قصير لا يكفي، فإنه ليس مطالبا بأن يبرهن على خطأ كل الآراء، فذاك يلزمه عمر طويل، فهو ليس في حاجة إلى أن يختبر كل شيء على حدة، فهذا سيكون عملا بلا نهاية، لكن يمكن أن يتجه رأسا إلى هدم الأساس، الذي سيتلوه بالضرورة انهيار بقية البناء كله.
يرى ديكارت أن هذه الوسيلة ستكون أكثر توفيقا في سياسة حياته مما لو بناها على أسس عتيقة واعتمد على مبادئ استسلم لها في شبابه دون أي اختبار لمدى صدقها، على الرغم مما يوجد في هذا الاختبار من مصاعب، فسقوط القديم يشبه سقوط الأجسام الثقيلة التي تكون مروعة ومدوية، فالناس يقبلون العيوب ويتحملونها أكثر مما يتحملون تغييرها، فهم كما يقول ديكارت مثلهم مثل "المسالك الكبرى التي تلتوي بين الجبال التي تزداد سهولة والتقاء بقدر ما يقع التردد عليها، إلى أن يصبح سلوكها أيسر على المرء من أن يحاول المشي في اتجاه أكثر استقامة متعرضا إلى الصعود فوق الصخور والنزول إلى قاع المهاوي". فالعادة والتقليد مثل الطريق الملتوية في الجبال تصبح مع الوقت سهلة ممهدة بكثرة التردد عليها.
وقبل الحديث عن الدرب الذي اختاره ديكارت لنفسه، سنقدم تصنيفه للناس في طريقة البحث عن الحقيقة، فهو يجعلهما قسمين:
1- طريق المتهور: وهو طريق المرء الذي يستخدم حرية الشك في كل ما يتلقاه بطريقة متهورة، متهافتة، بمعنى أنه يتسرع في إصدار الأحكام دونما ضوابط أو نظام أو منهج وهذا النوع من الناس غالبا ما يعتقد في نفسه الحذق والذكاء.
2- طريق التبعية للآخر: وهو طريق المرء الذي يرى في نفسه أنه ليست له القدرة على التمييز بين الحق والباطل، فهو أمر موكول لبعض الناس، أذن فالأولى أن يقنع باتباع هؤلاء من أن يجد الحقيقة بنفسه.
هنا سيتدخل ديكارت ليختار طريقا ثالثا لا هو بالتهور ولا هو بالتبعية والخضوع لوصاية الآخر، إنه طريق المنهج والعقل والاستقلال، فهو من سيتولى توجيه نفسه بنفسه. لقد قرر تحمل مسؤولية البحث عن الحقيقة والبناء بعد الهدم من الأساس بمفرده، وذلك باستخدام ما يملك من حس سليم وقدرة على التمييز بين الخطأ والصواب.
نخلص مع ديكارت أنه وإن كان يؤكد كون العقل هو أعدل الأمور الموزعة بين بني البشر، بحيث إن كل الناس قادرون على التثبت والتحري والنظر السديد والحكم الجيد، إلا أنهم على الرغم من ذلك يخطئون مثلهم مثل الرماية قد تصيب وقد لا. وهو ما جعل ديكارت يعلن في بداية المقال في المنهج: أن الخطأ والاختلاف والتنوع في الآراء لا يعود إلى أن الواحد أحسن من الآخر وأعقل منه، بل إلى طريقة سياقة الفكر، فكل واحد يسوق فكره في دروب مختلفة، إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيدا، بل أهم من ذلك أن يطبق تطبيقا حسنا. فالخطأ لا يكمن في امتلاك العقل، بل في الاستخدام السيئ لهذا العقل، وهو ما يطرح مسألة المنهج، فالعقل يجب أن يلجم بخطة، بطريقة، بقواعد ومسطرة صارمة، تحسن قيادته وتجنبه الزيغ والزلل، فما هي هذه القواعد؟ في المقال المقبل إن شاء الله، سنقف عند هذه القواعد ونتعرف من خلالها، على أبرز محاولة منهجية في تاريخ البشرية.

* أستاذ مادة الفلسفة/ المغرب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي