كُتّاب لا يقرؤون ..!
في السنوات الاربع الاخيرة جاءت ثورة كتابية عربية غزت المكتبات بكتّاب ومؤلفين جدد
انضمو لعالم التأليف لتجسيد أفكارهم على الورق كي يبتاع الاخرون عقولهم لمجالستها ومعانقة جمالها الذي وللاسف أن أغلبه جمال سطحي وهش!
لقد تحول العالم مؤخرا إلى كُتّاب لا يقرؤون!
لا أنكر حقيقة أني تعرفت على كُتّاب عظماء هُضم حقهم في السابق لتحقق لهم هذه الثورة نجاحا وبروزا وظهورا يستحق أن يحتفى به.
ولكني هنا اتسآل أمام بعض المؤلفين الجدد ما السبب في هشاشة ما يفرغون به على صفحات بيضاء وددت لو أنهم تركوا بياضها دون تدوينٍ أظهر ببساطة أنهم كُتّابا لا يقرؤون فضلاً عن كونهم كُتّابا لأني أتحفظ على إطلاق هذا اللقب على من لا يستحقه لأن الكاتب له وزنه وقيمته ليس لما يكتبه فقط، إنما للكنز الذي يملكه من عقل مُفكر، وقلب يمتلك أن يخطفك ليكتب ما يشعرك بأنه يترجم عواطفك وأفكارك ويدهشك مرة بعد مرة بتجدد لامنتهي، ومتعة تجعلك تصرخ بلذة في نهاية كل رواية، أو ديوان شعري، أو نص أو حتى كتاب علمي كتبه بلغة ماتعة ومشوقة وتنقل بك وأخذك في سفر مع أحرفه وأنت في مكانك محلقا في فضاء الكلمات التي لا يتقن حياكتها كل من خط سطرا ليطلق على نفسه اسم كاتب ويفرد كامل قواه الكتابية ليؤلف كتابا يخجل أن يقرأه طفل صغير في السابعة من عمره لسخف محتواه الذي ما هو إلا خربشات ليل وحديث نفس جُمعت لتظلمها بكتاب يخرج للعالم من شخص ليس مخولا للكتابة فضلا عن أن يؤلف!
في الصيف الماضي كنت في أمسية ثقافية بصحبة الصديقة اللطيفة الكاتبة سارة بنت محمد الخضير، وأذكر خلالها أنها سُئلت عن ذات السؤال وهو عن رأيها في هذه الثورة الكتابية التي سمحت للكاتب وغير الكاتب في الولوج إلى عالم التأليف والنشر، لا أزال أتذكر اجابتها وكأنها قيلت البارحة لشدة ثباتها في رأسي ولكونها لا تزال عالقة في ذهني، قالت وأنقل ما قالته بتصرف : "ببساطة دعوهم، فمع الوقت سيبقى كل ما يستحق أن يبقى، والتافه منها سينطفئ، وربما يتعلم الكاتب الهش أن يرقى سلما من نقد بناء موجه له ليكتب بشكل أفضل".
وفعلا، فلا يرقص ويظهر على السطح سوى السنابل الفارغة، أما الممتلئة فتبقى ثابتة محتفظة بالمخوزن الثمين الذي بداخلها.
وسرعان ما تموت تلك السنابل التي لا أهمية لها، بينما تعيش الاخرى لأنها تستحق العيش.
كررت سارة أيضا في ذات الامسية الدافئة "أن الكتابة هي ردة فعل القراءة". لذلك أقولها صريحة لكل كاتب ومؤلف أن كل ما تكتبه سيكشف لنا ما هو زادك وما أنت تتزود به من كتب. وما هي العقول التي عاشرتها كي تخرج لنا بهذا الذي كتبت!
رسالتي إلى كل كاتب مهما بلغ من العمر/ أن تلازم القراءة وتعتني باختيارك لما تقرأ وأن تكون ملما بتنوع، وشموليا فلا تحصر ذاتك في زواية تخلق ضيق دائرة الكتابة لديك لتجعل منك لا تملك تجدد الافكار ولا حتى القدرة في أن تكتب بلون مختلف.
والكتب كما يقول كارل ساغان "هي من تكسر أغلال الزمن".
فاكسر أغلال زمنك بقوة ما تقرأه لتخرج بقوة تكتب بها أفكارا صالحة للعيش من بعدك.
إن القراءة في الحقيقة ما هي إلا حرية حقيقية.
ولكن الكتابة تعطيك الحرية الأكبر، لكونك المتلاعب باللغة والكلمات، لأنك هنا الملك المتربع على عرش أفكاره التي يشكلها ويدونها كما يريد ويحب، ليخرج في نهاية كتابته بتحفة فنية يستمتع بها عقول كل من يتداول تلك التحفة الثرية والملهمة.
إن للكتابة طرقا عدة، كما أن للقراءة طرقا أوسع وأكبر مساحة تمنحك الكتابة بجمال لا متناهي وسحر يسلب لب القلب، ومرونة كتابية، وتدفقا، وسريانا في أفكارك وسيولة تجعلك حرا وعازفا باللغة ومتناغما مع فكرتك التي تكتبها في أن تكون واضحة وصافية وعميقة، فلا تتخلى عن مساحتك في أن تخصص لعقلك أن يقرأ حزبا يوميا تُقسمه كيفما تحب وتشاء شرط أن لا تتخلى عنه كي لا تتعرى بلغة سطحية تجعل منك كاتبا هشا.
وكن مدركا بأن الكتابة هي أقوى وسيلة لبقاءك حيا حتى وإن لم يعرفك أحد شخصيا، فحروفك كفيلة بأن تنفض احساس العالم، أو تمسح على قلوبهم، أو حتى تضمد جراحات من تعرف ولا تعرف.
إن الكتابة أشبه بالقوة العظمى التي تمنحك أن تحط عن راحلة عقلك وقلبك وكل ما يجول في نفسك وخاطرك فتخرج من بعد هذا قويا ومتزنا ومنسجما مع كونك وذاتك.
إن كل بيتٍ يخلو من مكتبة لا أعتب على أهله في سطحية عقولهم، ولا أستنكر قلة الوعي لدى كبارهم الذين وللأسف يورثون ذلك لصغارهم، ليعيش كل من يقطن في هذا البيت في صراع وهمجية وفوضى من كل النواحي سواء الفكرية أو النفسية أو الثقافية أو حتى في أبسط الامور في ادارة الذات والوقت والقدرة على التواصل مع المجتمع بثقة وقدرة تعبيرية متزنة وواعية وناضجة.
إن كل من لا يقرأ يحكم على نفسه بسجن ذاته في ذات مظلمة تقوده ناحية الجهل والأفكار العبثية الغير مجدية لا نفعا ولا قيمة تمنح الروح والعقل سواء وصلاحا.
إن كل قارئ هو في الحقيقة مستثمر لذاته ووقته، وذكيا لكونه مسافر على مدار العام في عقول ثرية تشدُ خيوطه لينطلق في عالم تطوير داخله ليبذر في أرض روحه جمالا ينضح للكون بجمال لا يفقده بهجة الحياة.
وتذكر جيدا بعد كل رحلاتك في القراءة ومهما بلغ بك من قراءة وإطلاع أنه ليس كل قارئ يكون مصرحا له بأن يؤلف ويكتب!
نصيحة أخيرة أيضا أربت بها على كتف كل كاتب بحب كبير لأقول : انتقِ كتبك كما تنتقي طعامك، فلا يلزم هذا العالم مزيدا من الكتب الاشبه بالاطعمة السريعة التي لا تضيف للعقول سوى الهشاشة والركاكة.
أعود لأقول أني مع النشر والتأليف ولكن للذي يستحق أن يُنشر، وأكثر ما يقلقني هو أن يتحول الجميع لكّتاب ومؤلفين ولا يبقى قارئٌ واحد كي يقرأ ما يكتبه الاخرون الذين تحول جميعهم لكتّاب!