ميلادٌ جديدْ ..

وصلتني رسالتها في اليوم ما قبل الأخير من الحج "نينا.. -ميلاد جديد- عنوان أتمنى أن أكتب عنه شعوري بالحج لكن لاقوة لي ولاحيلة أسعفيني يارفيقه".

المرسل: الصديقة الرائعة/ هلا مُبارك. حسنًا، أنا وأنتِ نذوبُ لذات الشعور، نبكي الدمعة الواحدة، للرب الذي وحدنا وجمعنا في تلك الرحلة وأشعلَ الروح رغم ظلمتها الداخلية لتضئ كأنها تُضئ للمرة الأولى.

كأن العُمر قد بدأ حقيقة في تلك الرحلة التي جردتنا من كل شيء، وجعلتنا عراة من الترف ونعيم الدنيا، تاركين الحياة وزخرفها وزينتها، طالبين الرضا والرحمة منه. تلك الرحلة يا صديقة علمتني بعمق أن الدين ليس صلاة ودعاءً وقراءة لكتابه وذكرًا فقط. إنما الدين أخلاقًا ورفقًا ولطفًا وحبًا للناس دون التفرقة بينهم أو الإختلاف على أعراقهم وألوانهم.

تلك المدرسة الربانية هذبت أخلاقي فعليًا في أن أصبر على كل ما يؤذيني، دون أن أتذمر، دون أن أشتكي، وأن ابتسم لكل شيء مهما كان حجم الألم الذي يأتيني منه، فإن كل أوجاعنا في هذه الحياة ما هي إلا رسائل خفية لنعم عظيمة تحتاج أن نصبر من أجلها وأن نتمسك به سبحانه وأن نثق به حتى تأتي في وقتها المناسب والمقدر لها..

مشاعري يا حبيبة الروح لا تختلف عنكِ، بل ربما تتساوى معكِ لكوني أعلم ما تذوقتهِ من نعيم رباني في أيام معدودة كانت من أجمل أيام حياتي، وما عرفت قدرها إلا ساعة طواف الوداع الذي بكيت بعده كالتي لم تبكِ قط..

أذكرُ في أيام المبيتِ بمنى وما أجملها من أيام، مُطرنا بفضلٍ منه ورحمته.. ولو تحدثت عن شعور الجميع ما وفيت حق الدموع التي تساقطت مغتسلة بالمطر، وقفنا جميعا.. نبكي وندعو.. هالني المنظر، بكيت وأنا أراهم، والجميل أننا كنا ندعو لبعضنا البعض، وكأن الله قد صبّ الحب فيما بيننا صبًا..

ومن القيم التي خرجت بها بعد الحج وما أكثرها، والتي حرصت على أن أحافظ عليها وأن تلازمني ما دمت حية، هي قيمة التراحم، كانت ظاهرة وجليّة في كل الأيام، سواء فيما بيننا في المخيمات، وحتى من رجال الأمن الذين يقدمون المساعدة لضيوف الرحمن كان الرفق والرحمة واللطف والتعامل بابتسامة ولين هي السمة الواضحة في غالبيتهم.. أيضاً قيمة التسامح، كانت تجعلني اتأمل كيف أن الله جعل القلوب تتراحم وتتسامح وتتجاوز ليس من أجل مصلحة خاصة، إنما لا تطلب سوى الرحمة والعفو منه.

ما أثار الدمع فيْ بشكل مفرطٍ هو الحبّ الذي كنت أحمله من الساعة الأولى التي التقيت بها رفقتي في الحج، شعور غريبٌ عجنَ قلبي، وأبكاني، وجعلني اؤمن أنّ الذي منح الحبّ بهذه السرعة قادر على أن يغير أحوالنا وأن يطعمنا الحبّ في كل ما نعاند به أنفسنا.. أختم يا رفيقة الحجّ والحبّ، بيوم عرفة..

وأكتفي عنده لأن "الحج عرفة" كما قال حبيبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه.. ذلك اليوم الذي حملني من حياة إلى حياة، وأعتقد بل وأكاد أجزم أني ولدتُ من بعده، وتجددت تماما، فكم من دمعة ذرفتها في ذلك اليوم الذي اغتسلت به بماء عيني. كان الناس يبكون كالأطفال، الجموع غفيرة، والقلوب كسيرة، والأرواح متلاحمه في حبه، ولا شيء سوى حبه.

يوم عرفة، كنا ضيوفه.. كانت قلوبنا تذوب رغبة في الانعتاق من الذنب، من النار، من كل ما يشعرنا بالخوف. وكنت أبكي بشدة كلما تذكرت الحديث الذي يقول فيه الحبيب"إنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء". أستشعر كيف أن الله يباهي بنا ملائكته، ويسأل عما نريد.. فأبكي، وأبكي.. حتى تورمت عيناي من البكاء.

ولكني أحمد الله على أن منحني هذا الفضل وهذا الشرف الذي يتمناه ملايين البشر، فالوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم لا يُوصف.. والشعور في تلك اللحظات يبكيكَ دهرًا كاملاً ولا أظنكَ تكتفي. ينتفضُ قلبك بطريقة تُشعركَ أنهُ مخاض الحياة التي ستولدُ من بعدها طاهرًا، تخرج من بعد ذلك اليوم نقيًا، طاهرًا، خفيفًا، تشعر براحة وسكينة لا أستطيع ترجمتها لأنها لا تُكتب، لأنها فوق اللغة، ولأن اللغة أمام ذلك الاحساس ضئيلة وفقيرة جدًا.

إن الذي حملتهُ معي من بعد الحج يا صديقة القلبْ هو السلامُ الدخلي الكثيف، والرضا، والراحة، والروحانية، والشعور العميق الذي يرتفعُ بي مُحلقة في سماواته السبع طالبة المزيد منه، إنها أجمل رحلة، كيف لا تكون كذلك وأنا التي أشعر بأنها ميلاد جديد، فقد كنتُ في ضيافته في وقتٍ أرجوهُ أن يعود، كي أبتهل بين يدي لطفه وحبه ورحماته التي لا يستشعرها سوى من تذوقُ طعم تلك الرحلة الإلهية الماتعة بحق. كل الحبّ لروحكِ هلا، كل الدعواتِ تدثركِ يا قلبًا أحبه للغاية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي