سلمان يعلن حزمه تجاه المتطرفين
لا حاجة بعد اليوم للتذاكي والقول إن جماعة "داعش" السنية تختلف عن "عصائب أهل الحق" الشيعية مثلا. التطرف والغلو المعمدان بدماء الأبرياء صارا صفة لصيقة بكثير من الحركات التي تدعي الإسلام منهجا وطريقا وتتخذ من القرآن والسنة وسيلة، فيما هي تسعى إلى تحقيق مآرب بشعة، الإسلام والله ورسوله منها براء.
من قراءة الأحداث المتتابعة في المنطقة لا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليدرك أنّ المستهدف الأكبر من خطاب الغلو والتطرف ولغة القتل والدم والافتراء الإعلامي، سواء كان مصدره سنيا كـ "داعش" و"القاعدة" أو كان شيعيا كالتنظيمات التي ترعاها إيران في لبنان واليمن والعراق، هو المملكة العربية السعودية، قيادة وأرضا وشعبا.
المهم لدى كلا الطرفين هو بذر بذور الشر والفوضى الأمنية والطائفية المقيتة في المجتمع السعودي وتمزيق نسيجه الوطني المتماسك ونقل السيناريو العراقي والسوري إليه، وخصوصا أن المملكة بقيت آمنة وبعيدة عن حماقات "الربيع العربي"، أي خلافا لما كان يمنِّي به النفس أركان نظام الولي الفقيه وأذرعتهم الأقليمية. أما المسوغات فهي الانتقام من المملكة بسبب دورها الاستراتيجي والحيوي في الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، ناهيك عن دورها المتنامي المشهود في التصدي للأطماع الإيرانية في ديار العرب والمسلمين. وما أدوارها في إنقاذ البحرين من مؤامرات إيران وأعوانها في فبراير 2011، وتشكيل التحالف العربي لإنقاذ اليمن من أيدي العصابات الحوثية، ووقوفها إلى جانب الشعب السوري المظلوم سوى أمثلة بسيطة. ومن هنا يلتقي الطرفان في الهدف، وإنْ أظهرا خلاف ذلك، وقد يأتي يوم نكتشف فيه أنهما تعاونا معا في هذا الهدف غير النبيل رغم تناقضهما المذهبي (ألم تحتضن طهران مثلا رموز القاعدة وعائلاتهم بُعيد فرارهم من أفغانستان رغم العداء الأيديولوجي الشديد بينهما؟ ألم يغض النظام الحاكم في بغداد الخاضع لإملاءات طهران الطرف عن محاولات الدواعش التسلل إلى المملكة أو الاعتداء عليها عبر الحدود السعودية العراقية في أكثر من واقعة؟).
بالمثل فإن الوسائل التي يعتمدها الطرفان المتطرفان لتحقيق أجنداتهما السقيمة هذه متشابهة أيضا وهي التغلغل في صفوف الشباب الغر المتحمس وتلويث عقله وإفساد نفسه تحت لافتة ثنائيات "الحلال والحرام، والحق والباطل، والكافر والمؤمن"، وذلك من خلال المنبر الديني غير المنضبط في معظم الأحيان، وفضاءات التواصل الإجتماعي المفتوحة على مصراعيها، وشاشات بعض الفضائيات الأجيرة، حتى إذا ما تشرب هؤلاء الفتية الصغار تلك المفاهيم المغلوطة والممزوجة بالكثير من الخرافات تم دفعهم دفعا إلى ساحات الهلاك ليُقتلوا ويقتلوا أبناء وطنهم وجلدتهم.
وقد اتضح من الجريمة النكراء الأخيرة في بلدة "القديح" المسالمة في محافظة القطيف والتي خططت لها العقول الداعشية المريضة ونفذتها أياد داعشية قذرة، ووقوع هذه الجريمة بالتزامن تقريبا (قبل نحو شهر) مع اختطاف الجندي السعودي ماجد عائض الغامدي في الرياض والتمثيل بجثته حرقا، أنّ الدواعش لا يفرقون في جرائمهم بين سني أو شيعي، إنما هدفهم هو إدخال الوطن في أتون الفتن والفوضى وهو ما فشلوا فيه فشلا ذريعا بسبب وعي المواطن السعودي الشيعي واعتزازه بوطنه وعروبته وافتخاره بما يجده في بلاده من خير ورفاه ومساواة، لا يجده إخوتهم في إيران والعراق وغيرهما.
مثل هذا الوعي والمشاعر هو الذي أحبط في العام الماضي ما كان يسعى إليه الدواعش والمتطرفون من وراء جريمتهم في قرية "الدالوة" الوادعة في محافظة الأحساء. كما لوحظ أن الدواعش والتكفيريين، حينما يقررون استهداف أبناء الطائفة الشيعية الكريمة، فإنهم يختارون أكثر التجمعات الشيعية تسامحا وتآلفا مع إخوتهم وشركائهم في الوطن من الطائفة الأخرى. وربما كان الهدف هنا هو توجيه رسالة إلى هؤلاء مفادها "أن تسامحكم لن يفيدكم ولن يجعلكم تفلتون من العقاب"! وإذا ما افترضنا أن هناك تعاونا سريا بين الدواعش ونظام طهران المارق، فإن مفاد الرسالة حينه سيكون "إن على شيعة السعودية التماهي والانخراط في المشروع الإيراني لأن دولتهم لا تستطيع حمايتهم من رعب "داعش" على نحو ما فصَّله الصديق مشاري الذايدي في صحيفة الشرق الأوسط (25/5/2015).
من المؤلم والمحزن والمقيت والمسبب للتقيؤ حقا وجود فئات تعيش بين ظهرانينا من تلك التي لا تزال تدعم هذه الجماعات الإرهابية المتطرفة سرا، سواء بالمال أو الرعاية أو التعاون أو تبرير أفعالها أو توفير الملجأ الآمن لها، دون أن تحرك جرائمها الدموية وأفكارها العبثية وخيانتها لوطنها وارتباطاتها الخارجية المشبوهة ساكنا لدى الداعم الثري أو الداعم الواعظ أو الداعم المتستر الذي يبدو أنه يعيش حالة بلادة في الإحساس والضمير والوطنية، تجعله لا يرى ما يراه العالم من غلو الدواعش ونزعتهم الدموية وهمجية منحاهم.
لكن من المفرح اليوم أن ملك الحزم خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - قد أخذ زمام المبادرة وقال كفى ولن نسكت بعد مجزرة "القديح"، وذلك حينما وجَّه برقية يوم الأحد الماضي إلى ولي عهده الأمين ووزير داخليته يؤكد فيها "إن كل مشارك أو مخطط أو داعم أو متعاون أو متعاطف مع جريمة القديح البشعة سيكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة وسينال عقابه الذي يستحقه". وهذه لعمري خطوة مباركة وفي الاتجاه الصحيح، وقد تتلوها قريبا خطوات مماثلة مطلوبة بإلحاح مثل تجريم الطائفية وبث الأحقاد والكراهية وتغيير الكلم عن مواضعه في المناهج المدرسية، إضافة إلى إعاقة وصول ذوي الأفكار المتشددة، ممن يربطون لسانهم بحزام ناسف، إلى منبر الخطاب الديني.
ونختتم بالقول إن الدواعش ما كانوا ليظهروا على الخريطة أو يحققوا لأنفسهم مواقع صلبة داخل قطرين عربيين كبيرين لولا سياسة التراخي والتردد واللاحسم التي اتبعتها ولا تزال تتبعها إدارة أوباما المهزوزة فيما خص العراق وسورية رغم ضجيجها الإعلامي حول قيادتها لتحالف دولي ضد هذا التنظيم الأخرق.