أساسيات لفهم واقعة «القديح»

أفجع هذه البلاد شعبا وقادة ما تعرض له جامع في بلدة القديح من تفجير انتحاري إرهابي يوم الجمعة الماضي. من المهم، كما أرى، أن نفهم الحادثة في إطار خمسة أساسيات.
الأول: أن الله منَّ على هذه البلاد بالوحدة، وتفاصيلها معروفة. وهي وحدة تعززت بفضل الله ثم بفضل عوامل كثيرة جعلت بلادنا ضمن أهم دول العالم. وقد منَّ الله على هذه البلاد بأن يقدر أبناؤها هذه الوحدة. وهي وحدة مثار حسد أو ملاحظة كثيرين. فمثلا، نشرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية المشهورة في عدد أمس الأول الإثنين 25 مايو عن حالة من الوطنية القوية جدا بين السعوديين عقب تدخل الرياض عسكريا في اليمن. ونحن نسأله سبحانه أن يبقي لحمة هذه البلاد.
الثاني: بلادنا ومنذ زمن بعيد مستهدفة في أمنها ووحدتها، كونها أهم معقل للإسلام السني وتحتضن الحرمين الشريفين. وزاد من الاستهداف حالة الحرب مع الحوثيين وأعوانهم. والاستهداف ليس مجرد دعوى ندعيها وتخرصات نطلقها، بل صدر من قادة ومسؤولين في دول وفي منظمات، قالوا كلاما صريحا عن استهداف أمن ووحدة هذه البلاد. وليس شرطا أن يكون بين هؤلاء صداقة أو تعاون أو اتفاق على أسباب هذا الاستهداف، فقد تختلف المصلحة مع اتفاق الهدف.
الثالث: عصمة الدم داخل الدول والمجتمعات مبدأ شرعي، وهذه الحرمة تشمل الدم المسلم وغير المسلم. ولا تنتهك هذه الحرمة إلا وفق قواعد شرعية صارمة، وبعد حكم قضائي، وتنفيذه من صاحب السلطة أو ولي الأمر، وليس بيد الأفراد والجماعات ضبطا للأمور. وإلا أصبح من حق كل فرد أن يفهم الدين كما يرى وأن يقرر من له حق ومن ليس له حق، من يستحق العقاب ومن لا يستحق، ويسعى إلى تطبيق ما يراه بنفسه. والله هذه هي الفوضى بعينها.
ودرءا لسوء الفهم، كلامي السابق مقصود به الوضع ودماء الأفراد داخل أي دولة من الدول. أما في الحروب بين الدول فلها أحكامها الخاصة بها سواء في الشرع أو في القانون.
الرابع: الخلاف بين السنة والشيعة الإمامية كبير جدا عقائديا وسياسيا، وكل طرف وعبر التاريخ يشنع على الآخر، وقد يصل التشنيع إلى حد التكفير، وليس بصحيح أن التشنيع فقط من السنة فقط ضد الشيعة. لكن من المهم جدا أن كل ذلك لا يخل بعصمة أو حرمة الدم كما بينت في الفقرتين السابقتين. ومن جهة أخرى، ذلك الخلاف لا يلغي حقوق المواطنين الشيعة، فلهم ما لغيرهم من المواطنين وعليهم ما على المواطنين الآخرين.
وزيادة في توضيح حرمة الدم، لدينا أعداد هائلة من العاملين غير المسلمين في الحكومة والشركات والبيوت من مسيحيين وهندوس وغيرهم، ولكن دماءهم معصومة وحقوقهم مصانة.
الخامس: أفهام الناس في الدين متفاوتة جدا. ومن ثم لا يصلح أن يترك فهم وتطبيق أحكام الدين فيما يخص قضايا الأمة خاصة، لكل أحد، ففي ذلك قمة الفوضى. فكيف إذا ترك لفتيان صغار، بل بعضهم أقل من 18 عاما؟
ويتعلق بهذا الخامس، تصور من علمه الشرعي ضحل أو مخالف لما عليه أئمة المسلمين وجود دولة إسلامية مثالية، فالبلاد تحكم بما أنزل الله، والحقوق والواجبات محددة، والحقوق مصانة. فعلام تظهر المشكلات من دينية واقتصادية وأمنية وحقوقية وغيرها؟ وكأن الاختلاف في فهم وتطبيق الشريعة غير موجود. وكأن الهوى لا وجود له، وكأن الشيطان يئس من وجود الغل والأحقاد والمكائد والحسد وشرور النفوس وحب المال والتنازع على السلطة، يئس من وجودها في رعية تلك الدولة. كل هذا وهم في وهم. حدثت الفتن والحروب بين من هم أفضل منا عبر تاريخنا الإسلامي.

لسنا بحاجة إلى أن نبحث عما يرضي الآخرين

بناء على ما سبق، من المهم الإشارة إلى مغالطة. ينسب زاعمون مثل "آيات قم" والحكومة الإيرانية ينسبون ظلما وعدوانا إلى آخرين، وعلى رأسهم علماء هذه البلاد، بأنهم تكفيريون. هذا الكلام فيه تضليل صريح، ففكرة التكفير موجودة في كل الفرق، ذلك لأن الإسلام نفسه قسم الناس إلى قسمين مؤمن وكافر. وهذه القسمة لا ينكرها منتسب للإسلام بغض النظر عن فرقته. المشكلة ليست في ذلك، بل في استحلال الدماء المعصومة كما سبق توضيحه.
مناهج وعلماء هذه البلاد لا تدعو إلى تفجير أو هدر دماء معصومة أو حقوق آخرين سواء في بلادنا أو في غيرها. ائتونا بفتوى معتبرة تبيح دم غير السني في أي مكان لمجرد أنه غير سني؟ لو كانت كذلك لما جاء ملايين من غير المسلمين للعمل في بلادنا. ووجود فئات ضالة في مجتمعنا لا يبيح التعميم. لو جاز التعميم لجاز الطعن في منهج وفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بناء على كون الخوارج ظهروا من جيشه، ولم يظهروا من جيش معاوية.
أهل هذه البلاد عانوا قبل الشيعة التفجيرات الإرهابية. عانوا فئات متطرفة، عانوا فئات اعتدت على الحجاج، وتسببت في قتل حجاج بيت الله الحرام.
من يرفع الاتهام مدعيا على علماء هذه البلاد بتأجيح الفتن، عليه أن يكون منصفا ويبحث بنزاهة عما لدى الغير. لم يعد خافيا وجود جماعات مسلحة تقتل السنة في دول كثيرة من حولنا وهي جماعات مدعومة من شخصيات سياسية وحزبية معروفة.
لم يعد خافيا ما يفعله الحوثيون بأبرياء في اليمن. وحتى لا يقال عن هذا الكلام إنه كلام إعلام خليجي منحاز، أدعو إلى الاطلاع على ما تقوله وسائل إعلام ثالثة بعيدة، سواء وسائل الإعلام الأوروبية أو الأمريكية أو الهندية أو اليابانية. هذه الوسائل وبناء على اطلاعي على بعضها، تؤكد حدوث جرائم للحوثيين في اليمن ضد أبرياء، لا لسبب إلا لأنهم رفضوا الخضوع لسلطة الحوثيين رجال إيران أو المتعاطفين معها. مثلا، أصدرت "بي بي سي" قبل حرب اليمن بشهور فيلما وثائقيا عن صعود الحوثيين. جاءت في الفيلم نقاط كثيرة ضد الحوثيين، منها أنهم استبدلوا وبالقوة أئمة جوامع كثيرة، حيث نصبوا أئمة غير سنة بدلا من السنة. من رفض أو عارض عوقب بالقوة. مثل هذه المعلومات لا تجدها لدى المعارضين لـ"عاصفة الحزم"، وكأننا مغفلون أو سذج لا سبيل لنا للوصول إلى هذه المعلومات.
وزيادة في التوضيح، هناك محاولات لاستغلال الحدث للوصول إلى مآرب. كيف عرفنا أنها مآرب؟ الانسجام والعدالة في إبداء الآراء ميزان للحكم على آراء الشخص أو الجهة. مثلا، من ينتقد "عاصفة الحزم" على أساس تعرض أبرياء للضرر من قتل وغيره، فعليه ألا يكون انتقائيا، بل عليه أن ينتقد كل حرب تنتج ضررا لأبرياء. ما نراه خلاف ذلك، بل نرى المنتقدين يقصرون نقدهم على حروب دون حروب. بل ينتقدون حربا ويؤيدون حربا أخرى ضحاياها أكثر بكثير والإفساد فيها أوضح. نرى مدحا لفلان وحزب فلان رغم ما عملوه ويعملونه من إجرام وقتل وتدمير، نرى غواية وولعا بالبحث له عن مبررات لهذا الإجرام. مثل هذا يسقط وينسف صدقية منتقد "عاصفة الحزم"، بأنه الهدف حقيقة ليس الدفاع عن مظلومية أو الدفاع عن أبرياء أو الوقوف ضد ما يسبب أضرارا باليمن، بل عن شيء آخر، ويستخدم الدفاع عن الأبرياء أداة. هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر". أشد انطباق. والله المستعان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي