عام على تأسيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية
أسس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية في شهر يناير من عام 2015 ليكون واحدا من مجلسين متفرعين عن مجلس الوزراء، يهدف إلى تنسيق السياسات الاقتصادية والتنموية في المملكة ووضعها في إطار متسق لتحقق بذلك الأهداف التنموية التي تسعى المملكة إلى تحقيقها من خلال خطط التنمية الاقتصادية الخمسية. وجاء تأسيس هذا المجلس على إثر تجربة سنوات طويلة مرت بها عملية التنمية الاقتصادية في المملكة وحققت كثير من المنجزات على جميع المستويات. لكن الرؤية الجديدة للقيادة الجديدة للمملكة تتطلع إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة ـــ من الإدارة ووضع السياسات ـــ تتناسب مع التطلعات للقيادة والشعب على حد سواء، وتتناسب أيضا مع حجم التحديات التي تواجهها المملكة حاليا سواء على الجانب الاقتصادي أو على الجانب الأمني. فعلى الجانب الاقتصادي، هناك تحديات اقتصادية كبيرة تتمثل في التغيرات الديموغرافية التي نواجهها وما قد يترتب عليها من نتائج اقتصادية كارتفاع البطالة، وزيادة الأعباء المالية على الدولة في قطاعات التعليم والصحة، وتراجع أسعار النفط، وضرورة تنويع القاعدة الاقتصادية. هي حاجة إلى التعامل مع مستجدات ومتغيرات تنموية بطرق أخرى غير تلك الطرق التقليدية التي تقيدها اللجان الوزارية والمعاملات والدراسات التي تستهلك الوقت والجهد، وتفاقم تأخيرها في زيادة تعقيد المشكلات التي نواجهها عبر الزمن. لكن هل يستطيع المجلس إحداث التغيير المطلوب والمأمول منه في سبيل تحقيق الأهداف التنموية للمملكة؟ سؤال تصعب الإجابة عنه في ظل الفترة القصيرة من عمر المجلس، لكن النظر إلى سجل المجلس خلال هذه الفترة يبعث على التفاؤل.
فقد استطاع المجلس خلال فترة قصيرة اتخاذ كثير من القرارات التي كانت تتطلب أعواما لاتخاذها، بما في ذلك قرار إعادة هيكلة عدد من القطاعات الحكومية، وقرار فرض رسوم الأراضي البيضاء، والقرارات اللازمة لتكيف أوضاع المالية العامة مع انخفاض أسعار النفط، وقرارات أخرى تعنى بتعزيز الوضع المالي والاقتصادي للمملكة على المديين المتوسط والطويل. وباكورة العمل المضني لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية على مدى العام الماضي ستكون برنامج التحول الاقتصادي، الذي ينتظر الإعلان عن تفاصيله الكاملة خلال الفترة القادمة. وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول العناصر المختلفة لبرنامج التحول الاقتصادي، فإن الجميع قد يتفقون على أن التنمية الاقتصادية في المرحلة القادمة وصلت إلى مرحلة من الجمود والتقليدية في السياسات. وهذا الجمود ليس بسبب عدم رغبة المسؤولين في تحقيق التقدم في هذا الجانب، أو عدم توافر الموارد اللازمة لذلك، ولكن لعدم قدرة الجهاز الإداري الحكومي وعلى جميع المستويات الإدارية على الاضطلاع بعملية التحول اللازمة لمواكبة الظروف الحالية. الظروف غير التقليدية التي يواجهها اقتصادنا لا يمكن التعامل معها بسياسات وأجهزة حكومية تقليدية، ولذلك فإن التغيير بدأ فعليا من رأس الهرم الإداري وهو مجلس الوزراء لإعادة رسم أدواره وتقسيم مسؤولياته بين مجلسين يتمتعان بديناميكية أكثر.
وفي رأيي أن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية قد بدأ بالفعل برسم تصور واضح وغير تقليدي لاستراتيجيته في التعامل مع القضايا التنموية وتحدياتها وتنسيقها وفق مبادئ اقتصادية رئيسة تحكم دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتوضح ما يصب في دور الدولة المباشر من حيث التخطيط والتنفيذ، وما يصب في دور الدولة التنظيمي والتشريعي والرقابي مع إعطاء الدور للقطاع الخاص للقيام بعملية التنفيذ والإدارة. كذلك عمل المجلس أيضا خلال الفترة الماضية على وضع رؤيته لتنويع القاعدة الاقتصادية، فاعتماد الاقتصاد الكلي تقريبا على النفط كقاعدة للنمو الاقتصادي يجعل الاقتصاد وعملية التنمية عرضة للهزات الاقتصادية التي تنتج عن الدورات الاقتصادية المرتبطة بأسواق النفط، كتلك التي نشهدها حاليا. ومن الواضح أن هناك جهدا كبيرا من الدول المستوردة للنفط للعمل على التقليل من دور النفط في قطاع الطاقة، الأمر الذي سيؤدي بالتالي إلى التأثير المباشر في المملكة وفي اقتصادها، وهذا يستدعي بذل مزيد من الجهود لزيادة مساهمة الأنشطة الاقتصادية الأخرى ــــ خصوصا تلك الأقل اعتمادا على النفط كقطاع الخدمات بشكل عام ـــ في الاقتصاد والتوظف. وهذا سيكون أكثر صعوبة بالنسبة للمملكة بالنظر إلى الاعتماد شبه الكامل للدولة على إيرادات النفط، ما يؤدي إلى ارتباط النشاط الاقتصادي ككل في المملكة وتأثره بأسعار النفط عن طريق قناة الإنفاق الحكومي التي تنقل هذا التأثير إلى النشاط الاقتصادي ومن ثم إلى قدرته على تحقيق النمو اللازم لإيجاد الوظائف الكافية لاستيعاب الداخلين إلى سوق العمل.
لكن عملية التحول التي يقودها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية لن تكون سهلة ولا تقف فقط عند عملية وضع الرؤى والاستراتيجيات، ولكن التحدي الأكبر سيكون وضع هذه الرؤى موضع التنفيذ. ولن يمر ذلك دون مواجهة كثير من العقبات، سواء الإدارية أو التنظيمية، لأن هناك كثيرا من الترسبات السلبية لثقافة العمل في الأجهزة الحكومية، التي تتطلب فهما لجوانبها المختلفة وإفرازاتها وكيفية التعامل معها. كذلك هناك كثير من التبعات الجانبية للسياسات الاقتصادية التي سيتبناها المجلس لإحداث التغير المطلوب، التي قد تؤثر في الفئات المختلفة للمجتمع، ما يفرض تحديا في تحقيق التوازن بين ما ستتحمله فئات الدخل المختلفة من المجتمع. الخلاصة، أن المجلس أظهر نجاحا في المهمة الأولى، وهي تغيير آلية اتخاذ القرار على المستوى الأعلى من الهرم الإداري، ونجح أيضا في المهمة الثانية وهي إعادة رسم استراتيجيات لسياسات أكثر جرأة وغير تقليدية ــــ بالنسبة للمملكة ــــ لمواجهة التحديات الاقتصادية خلال الفترة القادمة، لكن التحدي الأكبر هو النجاح في مهمة التنفيذ. والمجلس يواجه عملية التغيير هذه في ظل ظروف مالية عامة صعبة بالنسبة للمملكة، وذلك يضيف عبئا آخر إليها. ففي حين تسعى المملكة إلى ضبط أوضاع ماليتها العامة لتصل إلى مرحلة الاستقرار والاستدامة على المديين المتوسط والطويل، تعمل أيضا على إعادة هيكلة للاقتصاد قد تنطوي أيضا على تكاليف مالية كبيرة. لكن إيمان ولي ولي العهد "أن الفرص تأتي خلال الأزمات" يبعث على التفاؤل بنجاح هذه المهمة الصعبة.