نزاعات مائية «2»: نهر أم قناة؟

من يملك النهر؟ أنا لا أتحدث هنا مجازيا، إنما هو سؤال بالمعنى الحرفي. فمن يملك الأحقية في مياه الأنهار؟ أهي دول المنبع حيث تنشأ هذه الأنهار؟ أم هي دول الممر؟ أم دول المصب؟ أيحق لأي من هذه الدول الحصول على كل ما تريده من المياه أو إنشاء السدود لتوليد الطاقة الكهربائية من دون الرجوع إلى الدول الأخرى؟
في الواقع إن الإجابة عن مثل هذه التساؤلات ليست بالأمر السهل وذلك لأسباب منها الجغرافي ومنها القانوني:
- جغرافيا هناك خصوصية كل نهر "أو حوض نهر" عن الآخر.
- وقانونيا هناك غياب وجود ميثاق قانوني واضح وملزم في هذا الخصوص.
فبالنسبة إلى النقطة الأولى، تختلف الأنهار بل البحيرات من مكان إلى آخر. ففي حالات معينة قد تطالب دولة معينة بنصيبها من مياه نهر لا يجري في أراضيها إنما تتغذى روافده من أراضيها. وفي حالات أخرى، يكون للنهر الواحد أكثر من منبع رئيسي كما في حالة نهر النيل.
أما بالنسبة إلى القانون الدولي فالأمر أكثر تعقيدا. يوجد عديد من الوثائق والقوانين بل والنظريات في هذا المجال، بعضها قديم ويعود إلى 1851 كمعاهدة فيينا. بعض هذه النظريات تم رفضها لاحقا كنظرية السيادة المطلقة ـــ وتدعى أيضا نظرية هارمون نسبة إلى صاحبها المدعي العام الأمريكي ــــ وتنص ببساطة على أحقية دولة المنبع في التصرف كيفما تشاء في مياه الأنهار دون الرجوع إلى أي دولة أخرى. وهي نظرية تم رفضها وحاليا يتم الأخذ بالنظريات التي تدعو إلى ملكية أو وحدة مشتركة. لكن التحدي هو في عدم وجود نص قانوني ملزم في هذا المجال. أقرب ما تحقق هو قانون استخدام الممرات المائية للأغراض غير الملاحية، الذي صدر من الأمم المتحدة عام 1997 من غير أن يدخل حيز التنفيذ. ولهذا وعند حصول نزاع مائي بين دول حوض نهر ما، يتم الاحتكام وفق إحدى هذه الطرق:
- مبادئ القانون الدولي العامة كمبدأ حسن الجوار وعدم الإضرار بالغير وحل النزاعات بالطرق السلمية.
- القانون الدولي العرفي ـــ وهو بخلاف القانون الدولي المكتوب. وهي قواعد واتفاقيات عامة تحول بعضها لاحقا إلى قانون دولي مكتوب.
- الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية بين دول حوض الأنهار.
هذه المقدمة تبين مدى صعوبة حل أي خلاف مائي بين "الدول المتشاطئة"، ولهذا نسمع عن خلافات حول مياه أنهار عديدة كما رأينا في المقال السابق حول نهر النيل. وعلى الرغم من كثرة النزاعات المائية حاليا حول الأنهار الدولية، إلا أن النزاع حول نهر سيلالا مميز ومختلف. ينبع نهر سيلالا في بوليفيا ويصب في تشيلي. في حين يصر التشيليون على اعتبار نهر سيلالا نهرا دوليا والمطالبة بحقهم في الاستفادة منه وفق الأعراف الدولية في الحالات المماثلة، يرد البوليفيون ببرود: عن أي نهر تتحدثون؟
لنستمع إلى وجهات النظر البوليفية والتشيلية..
بوليفيا: نهر سيلالا ينبع من بوليفيا والجزء الذي يمتد عبر صحراء أتاكاما الحدودية إلى تشيلي ما هو إلا مجرى صناعي تم إنشاؤه عن طريق شركة تعدين تشيلية عبر امتياز منح لها في عام 1980 من الحكومة البوليفية. أي أن المختلف عليه ليس نهرا طبيعيا وإنما قناة من صنع الإنسان تم إنشاؤها لغرض معين وهو نقل الماء إلى شركة التعدين عبر امتياز تم إلغاؤه في عام 1997 بسبب استخدام الحكومة التشيلية الماء لأغراض غير المنصوص عليها في الامتياز.
تشيلي: نهر سيلالا لم يتم تغيير مساره أبدا. ما حصل هو بناء قناة لزيادة تدفقه عبر تحديد مساره. وعليه فإن نهر سيلالا كان ولا يزال نهرا دوليا يخضع للمعايير والأعراف الدولية ــــ لا توجد قوانين دولية ملزمة تحكم الاستخدامات المختلفة لكل دولة. ولهذا لا يتوجب من الأساس دفع أي مبالغ للحكومة البوليفية للاستفادة من مياه النهر.
بوليفيا: ماء النهر ينتقل من بوليفيا إلى تشيلي عبر قناة صناعية وليس بشكل طبيعي، وجميع الأعراف والاتفاقيات الدولية هي للأنهار الدولية. أما القنوات الصناعية - كهذه - فلا تنطبق عليها الأعراف الدولية حتى ولو عبرت الحدود. والأحقية هنا - كما يقول بهذا فقهاء القانون الدولي ــــ هي للدولة التي أقامت هذه القنوات.
تشيلي: هذا هو الوضع القائم حاليا لكن الدراسات الجيولوجية الحديثة أشارت بشكل واضح إلى أن النهر كان يسير في نفس مجرى القناة قبل بنائها بسنين عديدة. وعليه فإن القناة هي عمل مستحدث لما هو في الأصل نهر دولي والقانون هنا ــــ كما يفتي به فقهاؤه - هو للوضع الأصلي وليس المستحدث.
بوليفيا: حتى إن كان مسار النهر قبل القناة يتجه إلى تشيلي إلا أن جريان النهر كان متقطعا. والأعراف الدولية لا تتحدث عن المجاري المائية الموسمية أو المتقطعة إنما الدائمة. فالقناة هي ما أسهمت في تجميع الماء والحفاظ على جريانه.
توضح هذه القصة اختلاف النزاعات المائية من نهر إلى آخر. وفي غياب قانون دولي واضح وملزم تصبح الأمور أشد تعقيدا. ولا تزال قضية نهر سيلالا معلقة رغم مرور سنين على الخلاف، أو كما يقول المثل الإنجليزي "لا تزال لجنة المحلفين في انعقاد".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي