نزاعات مائية .. نهر التنانين التسعة «3»

يقع نهر الميكونج Mekong في جنوب شرقي آسيا، حيث ينبع من هضبة التيبت ــــ والتي تسمى سقف العالم وخزان العالم، التي تنبع منها الأنهار العشر الرئيسة في القارة الصفراء ــــ ويمر بدول عدة كمقاطعة يونان في الصين وبورما ولاوس وتايلاند وكمبوديا وينتهي في دلتا فيتنام، حيث يصب في بحر الصين الجنوبي. يعد النهر، الذي يبلغ طوله 4400 كيلو متر سابع أطول نهر آسيويا وصاحب الترتيب الـ 12 على مستوى العالم. لكن المختصين في البيئة يعدون حوض نهر الميكونج المنطقة البيئية الأهم والأشد غنى وتنوعا في العالم بعد الأمازون.
ولأن النهر يمر بست دول مختلفة الثقافات والأعراق فهو يحمل أسماء وصفات عدة ففي الصين يعرف بنهر لانكانج وفي كمبوديا يسمى النهر العظيم وفي باقي الدول التي يمر بها يعرف باسم ميكونج ويعني ببساطة نهر كونج (مي ترمز للنهر). أما أغرب أسمائه فهي في فيتنام، حيث ينتهي، وحيث يطلق عليه نهر التنانين التسعة. في البداية يبدو الاسم وكأنه مشتق من أساطير الثقافة السائدة هناك، حيث يعتبر التنين أبرز رموزها لكن الواقع قد يكون أغرب من الأساطير أحيانا فسكان ضفاف النهر يقسمون بأنهم اعتادوا رؤية كرات التنين الملتهبة تخرج من النهر. ففي تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام وعلى مقربة من الحدود بين لاوس وتايلاند تخرج كرات من "اللهب" من قاع النهر وترتفع في السماء في ظاهرة لم يتم إثباتها أو نفيها علميا. وفي حين يفسرها البعض بفقاعات غاز الميثان، يصر السكان المحليون على أنها نفثات التنانين. يمكن البحث عن هذه الظاهرة الغريبة في محركات البحث باستخدام المصطلح: Naga fireballs
هذا النهر العظيم، الذي يعتمد عليه اقتصاد أكثر من 100 مليون نسمة من الصين وحتى فيتنام مهدد بالخطر. ففي أعالي النهر وسط الأراضي الصينية، تقوم الحكومة هناك ببناء عديد من السدود. يقدر عدد السدود التي تم إنشاؤها أو يجري التخطيط لبنائها بـ 20 سدا، سواء في الصين أو في لاوس، حيث تتحكمان الدولتان في أعالي النهر. أحد هذه السدود التي تم الانتهاء منها هو سد "زاو وانج" والذي يبلغ ارتفاعه نحو 300 متر يعتبر أكبر سد مقوس في العالم.
حاولت دول النهر المتشاطئة Riparians ومنذ وقت مبكر وأد الخلافات المائية بينها من خلال إنشاء لجنة تعاون مشتركة وهو ما تم في عام 1957 تحت مظلة الأمم المتحدة. لكن الصين وبورما لم تكن من ضمن أعضاء هذه اللجنة وهو ما تسبب في عديد من التحديات لاحقا. وعدم وجود الصين في الاتفاقية كان لأسباب منها عدم وجود شح مائي في ذلك الوقت، إضافة إلى عدم وجود خطط تطويرية لتلك المنطقة من الصين "الجزء الجنوبي الشرقي" والسبب الثالث هو بكل بساطة عدم وجود الحافز. فكثير من الاتفاقيات المائية تنشأ نتيجة وجود خلاف بين دولة أو أكثر flashpoint وهو ما لم يحدث في حالة نهر الميكونج. أخيرا ومع التغير الاقتصادي في الصين وزيادة الطلب على الماء ـــ لمواكبة النمو الزراعي الهائل ـــ وكذلك التطور الصناعي ـــ وما يتطلبه من طاقة كهربائية ــــ التفتت الحكومة الصينية إلى أعالي نهر الميكونج لإيجاد الحل. كان الحل هو إنشاء السدود ـــ الكثير من السدود في الواقع. الهدف كان توفير الماء اللازم للأغراض الزراعية والأهم إنتاج الطاقة الكهربائية لتطوير منطقة جنوب شرق الصين.
خطورة هذه السدود هي في التأثير السلبي والدائم على مكونات البيئة النهرية كالدلافين ــــ نعم توجد دلافين في نهر الميكونج ـــ والتماسيح وعلى وجه الخصوص الأسماك. يقول بعض العلماء بأن أكثر من 40 نوعا من الأسماك انقرض أو في طريقه للانقراض من نهر الميكونج. في كمبوديا مثلا يوجد أحد أعلى معدلات الاستهلاك للسمك في العالم وعليه يقوم جزء مهم من الاقتصاد. فمنطقة حوض نهر الميكونج تعد في الواقع "أعظم صناعة سمك داخلية في العالم بأسره". وعليه، فإن الإضرار بالثروة السمكية من خلال هذه السدود هو عامل هدم لاقتصاد دول فيتنام وكمبوديا وتايلاند. الخطر الآخر لهذه السدود هو في التأثير السلبي على الزراعة، حيث تمنع السدود من عملية نقل التربة والسماد وهو ما يقلل من خصوبة الأراضي. ولهذا السبب تثير السدود قلق فيتنام، حيث تأثرت كفاءة زراعة الأرز هناك، التي تعتبر فيتنام المصدر الثاني له عالميا.
أغلب النزاعات المائية تنشأ نتيجة الخلاف حول توزيع نسبة المياه، إنما في حالة نهر الميكونج لا تعتبر قسمة الماء مشكلة في حد ذاتها، فالمنطقة غنية مائيا. النزاع هنا اقتصادي في المقام الأول بسبب تأثيره على الزراعة والصناعة السمكية. للأسف لم تلق الصين بالا للاحتجاجات المتتالية ضد هذه السدود ولا تزال مستمرة في إنشائها على نهر الميكونج بالرغم من خطورتها البيئية والاقتصادية على جيرانها الجنوبيين. وتحديات نهر الميكونج، التي نشأت نتيجة هذه السدود لا زالت في بداياتها ويتوقع لها أن تتسبب في عديد من المشاكل والنزاعات الإقليمية مستقبلا. في المقال القادم سنتحدث بشيء من التفصيل حول السدود الصينية، التي تعدت آثارها حدود الصين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي