نزاعات مائية «4» .. سد الصين العظيم
في إصداره الماتعThe World’s Water، يؤرخ بيتر جليك Peter Gleick ــ وهو مؤسس معهد المحيط الهادي لدراسات المياه ــ لتاريخ النزاعات المائية منذ فجر التاريخ وحتى عصرنا الحاضر. يبين كيف أن الماء كان مصدرا أو هدفا للنزاعات بين الدول أو المنظمات منذ آلاف السنين قبل الميلاد وحتى عصرنا الحالي، مع اختلاف طبيعة الصراع من عسكري إلى ديني إلى تنموي.
وبالنظر إلى العصر الحديث فإن غالبية النزاعات المائية تنحصر في الجانب التنموي وتنشأ بعد قيام دول المنبع ــ أو أعالي النهر ــ بالتحكم في مجرى النهر من خلال إنشاء السدود، كما رأينا في مثال سد النهضة في إثيوبيا أو سدود نهر الميكونج. السدود ليست شرا محضا ولا خيرا محضا، هي ببساطة لما بنيت له. أما أسباب بناء السدود فتتنوع من حجز الماء لأغراض زراعية، إلى حجزه لتوفير ماء شرب ومن حاجز لمنع الفيضانات إلى مولد للكهرباء. والسبب الأخير ــ توليد الكهرباء ــ هو الأكثر شيوعا في العقود الأخيرة. وفق إحصائية عام 2007، تمثل الطاقة الكهرومائية المنتجة من السدود ما يقارب 20 في المائة من مجمل الكهرباء في العالم. أكثر من نصف هذه الطاقة يأتي من خمس دول: الصين، أمريكا، كندا، روسيا، والبرازيل. إلا أن الحماس العالمي للسدود خفت جذوته في السنوات الأخيرة بسبب التأثيرات البيئية السلبية للسدود. فالسدود باختصار هي تدخل بشري لتغيير نظام طبيعي موجود منذ آلاف وربما ملايين السنين. فإضافة إلى إزالة القرى وتهجير السكان (تم تهجير قرابة 114 ألف شخص في بارجي الهندية، ويتوقع تهجير 100 ألف في سون لا الفيتنامية مثلا)، فإن بناء السدود يؤدي إلى تقليص وربما انقراض البيئة النهرية في أعالي السد. التأثير يمتد أيضا على ما بعد السدود، حيث تقل خصوبة التربة بسبب احتجاز الرواسب. بناء السدود يؤدي أيضا إلى تعطيل هجرة الأسماك وبالتالي انقراض أنواع منها "يعتقد الباحثون مثلا أن 40 نوعا من الأسماك قد انقرض أو في طريقه للانقراض في نهر الميكونج نتيجة بناء السدود هناك". يؤدي بناء السدود في بعض الحالات أيضا إلى خسارة مناطق أثرية مهمة كما حدث في نهر الميكونج "بحيرة ناصر في مصر التي تكونت خلف السد العالي كانت ستغمر معابد أبو سمبل الفرعونية ذات القيمة الأثرية العالمية، مما تطلب تفكيكها ومن ثم إعادة تجميعها في مكان مرتفع على ضفة البحيرة". ولهذه الأسباب تتزايد الأصوات المطالبة بالحد من بناء السدود ونزع فتيل النزاعات المائية.
عند الحديث عن السدود: بناؤها وآثارها البيئية، لا بد أن تتحول البوصلة شرقا صوب الصين. يقدر عدد السدود الكبيرة ــ أي التي ترتفع أكثر من 15 مترا ــ في العالم بأكثر من 47 ألف سد، ويستحوذ التنين الصيني على نسبة الأسد منها. فالصين تمتلك أكثر من 45 في المائة من السدود في العالم! (حسب أرقام 2003) ليس هذا وحسب، بل يمكن اعتبار الصين عملاق بناء السدود بامتياز، حيث امتد تأثيرهم خارج الحدود. ففي عام 2008 كانت الشركات الصينية تقوم بتشييد 97 سدا في 39 دولة. السدود الصينية سببت مشكلات ــ يتوقع لها أن تتطور إلى نزاعات ــ إقليمية مع دول جنوب شرق آسيا كما رأينا في المقال السابق. وإذا كانت صناعة السدود في الصين قد تطورت في العقود الأخيرة فإن الذروة لا بد أن تكون سد الخوانق (الممرات) الثلاثة Three Gorges Dam، السد الأعظم في العالم بلا منازع.
تم تشييد هذا السد على ضفاف نهر اليانج تسي Yangtze ــ ثالث أطول الأنهار عالميا ــ لإنتاج الطاقة الكهربائية. سبب آخر كان خلف بناء هذا السد وهو إظهار القوة الصينية. استغرق بناء هذا السد ــ الذي يمكن رؤيته من الفضاء بشكل أوضح من سور الصين العظيم ــ 12 سنة بدءا من عام 1994 وانتهاء بعام 2006، وكان يراد له أن يبرز التقدم الصيني للعالم أجمع. كانت الصين تريد مشروعا قوميا يظهر للعالم أنها وصلت لتتبوأ مركزا رياديا كدولة عظمى. حطم هذا المشروع العملاق أرقاما قياسية شتى فهو أكبر سد مولد للطاقة الكهربائية في العالم بطاقة تصل على 18،2 جيجاواط (كافية لتغطية احتياج مدينة الرياض من الكهرباء) وارتفاع 185 مترا وعرض كيلومترين. لكن المعارضين لبناء السد يشيرون إلى أرقام مهولة أخرى، فهم مثلا يشيرون إلى البحيرة التي تكونت خلف السد، والتي قد تصل مساحتها إلى ألف كيلومتر مربع، والتي بسببها تم هدم أكثر من 1300 قرية وترحيل أكثر من 1.5 مليون نسمة! هناك أيضا انزلاقات التربة التي زادت بشكل مطرد وتلوث المياه خلف السد بسبب الطحالب التي انتشرت بعد حجز الماء وركوده وتسببت في تسمم الآلاف.
لا تزال الصين وغيرها من الدول مستمرة في بناء السدود ولا يزال كثير من النشطاء والمنظمات يتظاهرون معترضين. يتوقع المراقبون أن تتسبب السدود في ازدياد النزاعات الإقليمية، وخاصة في ظل غياب قانون دولي واضح يحكم الأنهار المشتركة "قانون الأمم المتحدة لتنظيم الاستخدامات غير الملاحية للممرات المائية، الصادر عام 1997، لم يدخل حيز التنفيذ بسبب تقاعس كثير من الدول كالصين". ومع زيادة الطلب على الطاقة الكهربائية وكذلك زيادة الطلب على الماء للأغراض الزراعية، فإن الخوف أن تتطور هذه النزاعات إلى ما هو أسوأ ويصبح مصطلح الحروب المائية واقعا مرا.