صناعة المياه المعلبة .. «بيع الوهم»

يكثر الحديث في الأوساط المائية حول ثمن الماء وهل يجوز أساسا أن يكون سلعة أم هو حق مكتسب لكل البشر. ثم هناك الحديث حول السعر المناسب للمواطن والمزارع والصناعي وغيرهم. ما يتم تحصيله من المواطنين في أغلب الدول هو (جزء من) ثمن إيصال الماء للمواطن من محطات تنقية وضخ وشبكات توزيع وليس قيمة الماء نفسه. حديثنا اليوم ليس عن هذا الماء إنما عن ماء يتم بيعه بأضعاف مضاعفة وهو الماء المعلب. الماء المعلب Bottled Water هو ماء تم استخراجه من الآبار أو العيون أو الأنهار ثم تمت تعبئته وبيعه في عبوات بلاستيكية – غالبا.
مرت صناعة المياه المعلبة عبر تاريخها الذي قارب 400 سنة بفترات مختلفة من الازدهار والانحدار. بادئ ذي بدء قد يستغرب البعض – ولسبب وجيه - سبب تجميع وتعليب ومن ثم شحن منتج كالماء موجود في كل مكان تقريبا ومتوافر مجانا في الأغلب. كيف لصناعة تبيع منتجا كهذا أن تزدهر وتصل مبيعاتها إلى أكثر من 100 مليار دولار سنويا؟
يمكن تلخيص الإجابة في كلمة واحدة وهي "الوهم". تشكّل هذا الوهم في أوجه عدة. بداية من المعتقدات الدينية حيث كان الزعم – من قبل رجال الدين والدجالين على حد سواء ـــ بوجود مياه مقدسة تجترح المعجزات. ومع ابتعاد الناس عن الدين تحول هذا الوهم صوب الفوائد الطبية والشفائية وقدرات المياه الخارقة على شفاء مختلف الأمراض. أما في العصر الحالي ومع خفوت تأثير الوهمين السابقين ظهر وهم الصحة والرشاقة والجمال. ثلاثة أوهام تم التسويق لها على ثلاث مراحل تاريخية مختلفة أو متزامنة. استغل التجار هذه الفوائد المزعومة وتم بناء صناعة ازدهرت بشكل ضخم جدا، خاصة في العقود الأخيرة حتى أصبح العالم يستهلك ما يقارب 200 مليار لتر من الماء المعلب مع انقضاء العقد الأول من هذا القرن. نبدأ اليوم في الحديث عن هذه الصناعة منذ بدايتها وحتى منتصف القرن الماضي، فلنبدأ من البداية:
على عكس ما هو متوقع فإن صناعة المياه المعلبة ليست صناعة مستحدثة بل هي صناعة قديمة ترجع – حسب بعض المصادر – إلى القرن السابع عشر وتحديدا عام 1621 في بريطانيا – في حين تشير مصادر أخرى إلى أن بداية المياه المعلبة تعود إلى منتصف القرن السادس عشر في بلجيكا. مع التطور الحضري الأوروبي واتساع المدن – الذي لم يصاحبه تطور في الخدمات الصحية، خاصة في مجال الصرف الصحي - كان ماء الشرب في المدن والقرى سببا لانتشار كثير من الأوبئة كالكوليرا والتيفوئيد. تزامن هذا الوضع مع – بل ساعد على- انتشار التداوي بالماء (Hydro-Therapy)، خاصة مياه الينابيع الحارة والمعدنية، وكذلك البحث عن مصدر ماء آمن للشرب. وهنا ظهرت صناعة لتعليب هذه المياه (الصحية) وبيعها في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا. كانت هذه المياه (الصحية) المعلبة في الواقع تباع في الصيدليات كعلاج حتى بدايات القرن العشرين.
يذكر المؤرخون أن هذه الصناعة قد ولدت في بريطانيا وتحديدا في بلدة مالفيرن هيلز وذلك عندما تمت تعبئة أول مياه معلبة في عبوات من زجاج من ينابيع البلدة، التي كانت تعرف بمياه مالفيرن، ثم أصبحت تعرف مع مرور الوقت بالمياه المقدسة. هذه المياه اكتسبت شهرة كبيرة لخصائصها العلاجية – كما كان يعتقد - آنذاك. مع مرور الوقت وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر انتشر عديد من القصص حول شفاء مرضى شربوا من مياه مالفيرن المقدسة بعد أن كانوا قد يئسوا من برئهم. تم افتتاح عديد من العيادات (الطبية) للتداوي بالماء وتقاطر عديدون عليها من كل حدب وصوب – يذكر المؤرخون أن تشارلز داروين صاحب نظرية النشأة والتطور كان أحدهم. استغل التجار هذا الصيت وبدأت المعامل في تعليب وبيع هذه المياه المقدسة وهكذا ينسب إلى هذه المياه الفضل في ولادة وتطور صناعة المياه المعلبة. سبب نقاوة مياه البلدة – كما يكشف العلم الحديث - يرجع إلى التكوين الجيولوجي المميز هناك، الذي يعمل كمحطة تنقية تحت الأرض لمياه الأمطار. الماء يخرج بعدها بنقاوة عالية خاليا من الشوائب والبكتيريا، بل حتى الأملاح – في نقاوة تقارب نقاوة الماء المقطر- وهذا ما جعل أحد المختصين بعد فحصه للماء أن يقول (ماء مالفيرن شهير لاحتوائه على لا شيء تقريبا). بإمكان القارئ الرجوع إلى مقالي بعنوان (تصحيح المفاهيم المائية: ماء خال من الأملاح)، الذي يتحدث عن فوائد / أخطار شرب المياه المقطرة.
الوضع ذاته تكرر في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم تعليب وبيع مياه (جاكسون سبا) في بوسطن في عام 1760 للاستفادة من شهرتها بين العامة بكونها مياها طبية شفائية Therapeutic. ازدهرت الصناعة هناك حتى بلغت مبيعات إحدى الشركات في منتصف القرن التاسع عشر سبعة ملايين قارورة ماء سنويا.
إلا أن التطور الكبير الذي صاحب عمليات إنتاج وتعقيم المياه – خاصة استخدام الكلور في التعقيم، الذي قضى على كثير من الأمراض – أسهم في انحسار مبيعات المياه المعلبة بشكل كبير. السبب الآخر كان التطور في المجال الطبي بشكل عام وانعدام الحاجة إلى مياه طبية ذات قدرات شفائية مزعومة. كانت صناعة المياه المعلبة على وشك الانهيار حتى أنقذتها شركة بيرير Perrier في عام 1977 وهذا ما سنتحدث عنه في المقال المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي