أوروبا بين الصين وأمريكا.. وتعريف العلاقات
ما زالت الحرب التجارية التي بدأتها الولايات المتحدة تتصاعد وتتفاقم. فما بدأ كزيادة في الرسوم الجمركية على سلع محددة كالصلب والألمنيوم، اتسع ليشمل السلع المعمرة والألواح الشمسية، ثم توسع ليشمل منتجات قيمتها الإجمالية السنوية تصل إلى 200 مليار دولار. حتى إن العقوبات على إيران وتركيا أخذت الأسلوب نفسه الذي يحد من تدفق العمليات التجارية حول العالم، الأمر الذي قد يكون أحد الدوافع الرئيسة وراء الضغوط على الاقتصادات الناشئة، وأسعار صرف عملاتها.
وعلى الرغم من محدودية أثر كل هذه الإجراءات الحمائية على الواردات الأمريكية، والذي يقدر بتراجع يصل إلى نحو 15 في المائة من إجمالي قيمة الواردات، فإن مستوى الخوف والمخاطر في ازدياد على مستوى الأسواق العالمية. وبالتالي فإنه يؤدي إلى انحسار الائتمان وتتدافع الأموال والاستثمارات نحو الملاذات الآمنة، وأهمها الدولار. والأسواق محقة في قلقها هذا، فما يتراءى لنا اليوم هو مجرد بداية لسياسات أكثر صرامة حول حرية تدفق الأموال والاستثمارات والتقنيات المتقدمة، من وإلى الولايات المتحدة.
ولذلك تجد الصين نفسها في موقف صعب للغاية، فتوسع اقتصادها مستقبلا يعتمد بالضرورة على وارداتها من الصناعات الثقيلة، بينما لا تملك الصين مساحة كافية للمناورة أمام الولايات المتحدة. ولذلك فإن الحل أمام الصين هو تكريس سياستها الانفتاحية على مناطق جديدة، وتعميق ترابطها مع أوروبا عبر طريق الحرير الجديد، وبالتالي فإن عليها إعادة تكييف وتوجيه قاعدتها الصناعية مع المتطلبات الأوروبية وكذلك فتح أسواقها أمام الشركات الأوروبية، إضافة إلى زيادة حجم التدفقات الاستثمارية المتبادلة من الجانبين.
ولكن على الجانب الآخر، فإن لدى أوروبا خيارات أكثر من الصين، فالأسواق الأمريكية أكثر انفتاحا على الأسواق الأوروبية، كما أن البنية التحتية للتبادل التجاري عميقة. ولذلك فإن لدى أوروبا الخيار بأن تتفاوض على بعض الرسوم الأمريكية، مع الاستحواذ على حصة الصادرات الصينية المتراجعة، أو فتح الأسواق الصينية على حساب صادرات الولايات المتحدة. عدم وجود بدائل أمام الصين قد يجعلها مستعدة لتقديم مزيد من الحوافر لأوروبا عبر مبادرة طريق الحرير.
السوق الأمريكية أكبر وأكثر اتساعا من السوق الصينية. ولكن مدى التكامل على مستوى القطاعات بين أوروبا والولايات المتحدة أقل، مقارنة بالصين، إلا أن هوامش الربح في التجارة مع الولايات المتحدة أعلى بسبب وفورات الحجم على مستوى سلاسل الإمداد. ولكن من ناحية أخرى، فإن الحرب التجارية التي تقودها الولايات المتحدة قد تضرب أوروبا هي الأخرى، فتحد من الميزات النسبية للأسواق الأمريكية. كل تلك العوامل يجب أخذها في الحسبان قبل رسم استراتيجيات العلاقات وإعادة رسم خريطة التحالفات. التأخر والتلكؤ في تحديد الوجهة للسياسة الاقتصادية، بعد أن اقتربت الولايات المتحدة من حسم أمرها، قد يعني أن المنطقة المتأخرة ستعاني الكساد أولا.