الحل الجذري المبتكر وضرورة التمهل

التفكير المتواصل يقف عائقا بين اللحظات التي تخرج فيها بحلول إبداعية، فقد طلب مني رئيس تنفيذي لمجموعة حضور اجتماع للتنفيذيين بهدف مراقبة مدى الانسجام بين الفريق. تفاجأت خلال الاجتماع بغياب القرارات حتى عند تناول عديد من القضايا باستفاضة. عندما ذكرت ذلك للرئيس التنفيذي، أخبرني أن الفريق يتخذ قراراته في اليوم اللاحق. فقد ارتأى أن القرارات تكون أفضل عندما يكون لدى الجميع فرصة للتفكير فيها.
ذكرني ذلك بأرخميدس أحد أعظم العلماء في العصور القديمة، الذي يذكره التاريخ على أنه الشخص الذي ركض عاريا في الشوارع وهو يهتف "وجدتها وجدتها". كانت تلك اللحظة بالنسبة لأرخميدس تعبيرا عن سعادته باكتشاف قانون الفيزياء. طلب منه الملك التحقق فيما إذا كان التاجر قد خدعه وصنع له تاجا ليس من الذهب الخالص واستخدم النحاس والفضة فيه.
في البداية كان أرخميدس في حيرة كونه يجب عليه عدم إتلاف التاج. لكن في أحد الأيام وعندما كان يغتسل في الحمام، لاحظ أن منسوب الماء ارتفع عندما أنزل جسمه فيه، فأدرك أن حجم الماء المزاح يساوي حجم الجسم المغمور. وكل ما كان على أرخميدس فعله هو وضع وزن من الذهب مساو للتاج في وعاء مملوء بالماء. ومن ثم إزالة الذهب ووضع تاج الملك في مكانه، فالفضة تتسبب في زيادة سعة الوعاء نظرا لكون حجمها أكبر مقارنة بالوزن نفسه من الذهب.

لحظات الإبداع 3BS
عند البحث عن إجابات تكون الأفكار غير المرتبطة بالمهام وأحلام اليقظة أو الأحلام من الأمور الحاسمة. ففي الواقع، الأحلام تكون خلف التعبير عن الإبداع، مثل الاكتشافات العلمية والتراكيب الموسيقية. أدى حلم للعالم الشهير أوجست كيكولي عن ثعبان يلتهم نفسه إلى اكتشاف بنية البنزين الشبيهة بالحلقة، وهي علامة فارقة في الكيمياء العضوية. كما كانت أغنية البيتلز "البارحة" نتاج حلم.
على الرغم من أنه لا يمكن فرض لحظات "وجدتها" يقضي معظمنا وقتا طويلا ويهدر طاقته في التفكير في المعضلة، ليأتي الحل عندما يكون عقلنا يفكر في شيء آخر. فالأفكار العظيمة تأتي إلينا ونحن في السرير أو الحمام أو الحافلة، لذا أطلق عليها لحظات الإبداع 3BS.
غالبا ما يسبق حل المشكلة فترة حضانة. وهي أشبه بوضع المشكلة على جنب وعدم التفكير فيها بشكل دائم، ما يساعد على تحفيز التفكير الإبداعي. وعلى الرغم من أنه لا يبدو أن شيئا سيحدث، إلا أن العقل يواصل العمل.

كيف نحفز التفكير الإبداعي؟
من الواضح أنه في ظل واقع سريع التغيير نحتاج أكثر من قبل إلى مساهمات الأشخاص المبدعين. فالإبداع يلعب دورا مهما في عدة نواح من حياتنا، في التعليم والفنون والعلوم وقطاع الأعمال بالعموم. لا أشير هنا إلى الإبداع بمفهومه المحصور بالتطورات العلمية والفنية. بل أشمل هنا الإبداع بمفهومه الأصغر الذي يسهم بإعطاء حلول لمشكلاتنا المعقدة على الصعيد اليومي.
بالإشارة إلى أهمية فترة الحضانة، ما الذي بالإمكان فعله لتطوير عمليات التفكير الإبداعي؟
عندما أعمل مع تنفيذيين يناضلون لمواجهة الصعوبات، أقترح عليهم دائما أخذ فترة راحة والعمل على شيء مختلف تماما عن المشكلة التي يواجهونها قبل العودة إليها. يجب أن يركز عقلهم الواعي على نشاط عقلي آخر، بمعزل عن المشكلة التي تحتاج إلى حل. ما يسهل فترة الحضانة.
يحتاج العقل غير الواعي إلى الوقت الكافي للتفكير والسعي خلف الأوهام واستيعاب المعلومات التي يتم جمعها من مصادر متنوعة. فعندما ننخرط في أنشطة تجعلنا نشعر بالراحة والسعادة، يتم إفراز الدوبامين في المخ. يساعد هذا الناقل العصبي العقل على التفكير ما ينشط العملية الإبداعية. وبالتالي ما نشعر به على أنه راحة، قد يكون في الواقع وقتا مثمرا بفضل قوة عقلنا غير الواعي.

لا يوجد منهج واحد يناسب الجميع في الإبداع
بالنسبة لبعض الأشخاص، تتطلب الأفكار الإبداعية بعضا من العزلة، بينما يرى آخرون أن من الجيد أن تكون محاطا بالأصدقاء وأفراد العائلة. المهم هو القيام بشيء مختلف تماما. بإمكانك الاستحمام، القيام بالأعمال المنزلية أو المشي في الهواء الطلق. ومن الأمثلة على ذلك أينشتاين الذي استنتج أهم أفكاره العلمية خلال عزفه الكمان.
الابتعاد عن روتيننا اليومي ضروري لرؤية الأشياء من منظور مختلف. لكن يجد عديد من الأشخاص صعوبة في صرف تفكيرهم عما يشغله. لا يجب النظر إلى الانشغال على أنه إنجاز، فهو عقوبة أمام الإبداع. العمل باستمرار ومحاولة الضغط لاستنباط حلول وتعويض النقص في الأفكار بإغراق أنفسنا في العمل، لا يؤدي إلى التعاسة فحسب، بل من المحتمل أن يعطي نتائج عكسية.
بالطبع، لا تأتي الحلول الإبداعية من الفراغ. نحتاج أولا إلى التفكير في المشكلة قبل أن نتركها حتى تتمكن الأفكار من احتضان العقل الباطن. تحفيز العملية الإبداعية أمر بالغ الحساسية.
كما يذكرنا الممثل والكوميدي جون كليز: "إبداعاتك أشبه بالسلحفاة تخرج رأسها بعصبية لمعرفة إذا ما كانت البيئة آمنة قبل خروجها بالكامل. وبالتالي، تحتاج إلى أن تقوم بالمثل، ليكون لديك ملاذا آمنا يستطيع أن يظهر إبداعك".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي