الموارد البشرية .. واختلاف توجهات الأجيال

تختلف خصائص أجيال الموارد البشرية تبعا للبيئة المحيطة بنشأتها، وتبعا لعوامل أخرى تأتي مع تراكم الخبرات. وتنقسم البيئة المحيطة بالناشئة عادة إلى قسمين رئيسين: قسم خاص يتبع الانتماء، وآخر عام يتبع معطيات العصر. في القسم الخاص بالانتماء تبرز البيئة الثقافية التي تختلف في معطياتها بين أمة وأخرى. أما في القسم العام، فتظهر معطيات العصر التي تقدم بين حين وآخر، وسائل تؤدي إلى تغيير طبيعة حياة الإنسان، مؤثرة بذلك في جميع الأمم دون استثناء. وقد كان للتطور التقني المتسارع الذي شهده العالم منذ بداية الثورة الصناعية الأولى، وظهور الآلة البخارية في القرن الـ 18 دور كبير في إيجاد مثل هذه الوسائل. وتجلى ذلك خصوصا وبتسارع أكبر مع بداية الثورة الصناعية الرابعة في مطلع ثمانينيات القرن الـ 20، حيث تطورت معطيات هذه الثورة بسرعة لتظهر الإنترنت، وينطلق العالم السيبراني الذي حمل أثرا فاعلا في جميع الأمم.
ويحلو للمهتمين بشؤون خصائص الأجيال رصد صفات أبناء هذه الأجيال في إطار معطيات الفترات الزمنية التي ينشؤون فيها. وظهرت، بالفعل، ومنذ أواخر القرن الـ 19 وبالذات في أمريكا، تقسيمات للأجيال تبعا لفترات زمنية مختلفة، يتصف كل فترة منها بصفات معينة. وليست غاية هذا المقال هي استعراض هذه الفترات وبيان أسس تقسيم الأجيال على أساسها، بل إن غايته طرح خصائص الأجيال الأكثر تأثيرا في شؤون الحياة في الوقت الحاضر والاختلافات فيما بينها. والسبب وراء ذلك، هو محاولة إدراك مشكلات الاختلاف بين أجيال الموارد البشرية في مجالات العمل، واستشراف توجهات الأجيال الصاعدة، حرصا على تأمين بيئة عمل مناسبة لهذه الأجيال تتوافق مع توجهاتهم وتعزز عطاءهم.
هناك خمسة أجيال مؤثرة في الحياة حاليا: جيلان منهم نشآ قبل هيمنة التقنية الرقمية على حياة الإنسان، وثلاثة أجيال نشؤوا بعد ذلك. يعرف أبناء الجيلين الأولين بأنهم مهاجرون رقميون لأنهم لم ينشؤوا في ظل هيمنة التقنية الرقمية، لكنهم اضطروا إلى الهجرة إلى هذه التقنية وتعلم استخدامها والاستفادة منها. ثم يعرف أبناء الأجيال الثلاثة التالية بأنهم مواطنون رقميون لأنهم نشؤوا وهذه التقنية قائمة ومنتشرة بين أيديهم، بدرجات مختلفة من التقدم.
الجيل المؤثر الأول هو جيل الطفرة السكانية، حيث جاءت بداية الفترة الزمنية لهذا الجيل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات من القرن الـ 20 حينما بدأ النمو الاقتصادي بالصعود، وأصبحت تكاليف حياة الناس يسيرة، في كثير من دول العالم، ما أدى إلى زيادة الولادات وازدياد السكان. أما نهاية فترة هذا الجيل والانتقال إلى جيل آخر، فقد جاءت في منتصف الستينيات. وهناك يرجع السبب الرئيس لهذه النهاية، إلى ظهور حبوب منع الحمل التي أدت إلى كبت الطفرة السكانية. وهكذا ظهرت فترة الجيل المؤثر الثاني بعد نهاية سابقه، وانتهت في آخر السبعينيات من القرن الـ 20، واصطلح على تسميته بجيل إكس X. والملاحظ في أبناء هذا الجيل أنهم أكثر استقلالية، ربما بسبب ما شهده التعليم من نمو، كما وكيفا في تلك الفترة الزمنية.
بدأت الفترة الزمنية لأجيال المواطنين الرقميين، عام 1980 للميلاد، وذلك بالجيل الذي يعرف حاليا بجيل واي Y، وانتهى عام 1994 حينما كانت تقنيات الإنترنت والعالم السيبراني تأخذ طريقها إلى الانتشار حول العالم، وكانت تقنيات الجوال تتبع خطاها أيضا. وشهد تسارع هذا التطور، بداية لفترة جيل جديد هو جيل زد Z، استمرت حتى عام 2010، ليأتي عام 2011 بجيل جديد أكثر تعمقا في العالم الرقمي هو جيل ألفا.
يتمتع كل من جيلي المهاجرين الرقميين سابقي الذكر بتأثير في شؤون الحياة، وكذلك الجيل الأول من المواطنين الرقميين، أي جيل واي، بل إنهم في مواقع قيادية في كثير من المؤسسات والشركات حول العالم. أما جيل زد فقد بدأ أبناؤه دخول سوق العمل على نطاق واسع، لكن أبناء جيل ألفا، لا يزالون على مقاعد الدراسة.
تختلف فترة النشأة لأجيال المهاجرين الرقميين عن مثيلتها لأجيال المواطنين الرقميين. وهناك مقارنات بين خصائص هؤلاء وسمات أولئك تبعا لمعايير مختلفة. ولعلنا نبرز في التالي بعض معطيات هذه المقارنات. في معيار الخبرة، يتمتع أبناء جيل المهاجرين الرقميين بخبرة أوسع في مختلف نواحي الحياة. وفي معيار استخدام العالم السيبراني تنعكس الحالة، حيث يتفوق المواطنون الرقميون. أما في معيار الأداء فهناك اختلاف في مفهوم الأداء لدى الطرفين. فبينما يهتم المواطنون الرقميون بالإنجاز كمعيار للأداء وبتنفيذ الأعمال في أي وقت صباحا أو مساء عبر العالم السيبراني، يركز المهاجرون الرقميون على الحضور الشخصي في أوقات الدوام الثابتة، بصرف النظر عن وجود، أو عدم وجود مهمات يطلب أداؤها.
ونتيجة لما سبق، يهتم المهاجرون الرقميون بوجود أماكن وأوقات محددة للعمل، ووجود وسائل نقل بين أماكن العمل والمنازل، بينما لا يهتم المواطنون الرقميون بأي من هذه الأمور، وهم مستعدون للعمل من منازلهم، بل من الحركة أيضا عند الحاجة. وهكذا يختلف الموقف من العالم السيبراني وخدماته بين الطرفين. صحيح أن الطرفين يتفقان من الناحية المعرفية Knowledge على أهمية الاستفادة من التقنية الرقمية، إلا أنهما يختلفان في الموقف Attitude، وكذلك في الممارسة Practice. ولعل السبب يعود إلى أن مرجعية المعرفة ترتبط بالقناعة العقلية، لكن مرجعية الموقف والممارسة تتأثر بالعادة. وأمام حقيقة أن الإدارة أكثر ارتباطا بالمهاجرين الرقميين، فإن عاداتهم تنعكس على الواقع الحالي، لكن ربما يكون للمستقبل في هذا المجال قول مختلف.
تعطي تقسيمات الأجيال تبعا للفترات الزمنية المختلفة توجهات محددة خاصة لكل جيل. لكننا لا يمكن أن نجزم بحمل جميع أبناء جيل واحد ذات التوجهات. فهناك في كل جيل من هو متقدم عن فترة نشأته، ومن هو متأخر عن هذه الفترة. فقد نجد في توجهات أفراد من جيل الطفرة السكانية ما يشابه التوجهات المتوقعة من جيل زد وقد نجد عكس ذلك أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي