الحياة الاقتصادية في عالم بلا هيمنة «2 من 2»
كانت توترات عديدة واضحة جلية في خطاب ألقاه أخيرا أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، حول النهج الذي تتبناه أمريكا في التعامل مع الصين. وصف بلينكن الصين، بأنها "التحدي طويل الأمد الأشد تهديدا للنظام الدولي"، زاعما أن "رؤية بكين من شأنها أن تقودنا بعيدا عن القيم العالمية التي حافظت على قدر كبير من التقدم الذي أحرزه العالم".
الواقع أن بلينكن محق في أن عديدا من عناصر نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل ميثاق الأمم المتحدة، ليست أمريكية أو غربية صرفة. لكن من غير المؤكد على الإطلاق ما إذا كانت الصين تشكل تهديدا أعظم لتلك البنى العالمية مقارنة بالولايات المتحدة. على سبيل المثال، يرتبط قسم كبير من المشكلة التي يواجهها صناع السياسات في الولايات المتحدة مع الممارسات الاقتصادية الصينية بمجالات النفوذ -خاصة التجارة، والاستثمار، والتكنولوجيا- حيث نادرا ما تكون الغلبة للقواعد العالمية.
وفقا لتصريحات بلينكن، فإن الولايات المتحدة "ستشكل البيئة الاستراتيجية حول بكين لتعزيز رؤيتنا لنظام دولي مفتوح وشامل". مرة أخرى، من الذي قد يعارض مثل هذه الرؤية؟ لكن الصين وعديدا من الدول الأخرى تخشى أن تكون نيات الولايات المتحدة غير حميدة بهذا القدر. من منظور هذه الدول، تبدو تصريحات بلينكن وكأنها تهديد باحتواء الصين وتقييد خياراتها، في حين يتنمر بالتصريحات ذاتها على دول أخرى لحملها على الانحياز إلى جانب أمريكا.
لا أدعـي بأي من هذا المساواة بين تصرفات الولايات المتحدة الحالية والحرب الروسية ـ الأوكرانية، أو آراء أخرى حول سياسة الصين بشأن حقوق الإنسان. فعلى الرغم من كل عيوبها، تعد الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، حيث يستطيع المنتقدون انتقاد ومعارضة السياسة الخارجية التي تنتهجها الحكومة علانية. لكن هذا لا يشكل فارقا كبيرا من منظور الدول التي تلقى معاملة البيادق على رقعة شطرنج المنافسة الجيوسياسية الأمريكية مع الصين، والتي تناضل في الأغلب للتمييز بين التصرفات العالمية التي تزاولها القوى الكبرى.
الحق أن بلينكن رسم صلة واضحة بين الممارسات من جانب الصين، والتهديد المفترض الذي تشكله للنظام العالمي. هذا هو إسقاط لصورة منعكسة لإيمان أمريكا باستثنائيتها الحميدة. لكن مثلما لا تدل الديمقراطية في الداخل على حسن النيات في الخارج، فإن القمع المحلي لا يفضي حتما إلى العدوان الخارجي. فالصين أيضا تزعم أنها مهتمة بإيجاد نظام عالمي مستقر ومزدهر ـ لكنه ليس نظاما مرتبا بشكل قسري وفق شروط الولايات المتحدة.
المفارقة هنا هي أنه كلما تعاملت الولايات المتحدة مع الصين على أنها تهديد وحاولت عزلها، بدت استجابات الصين وكأنها تؤكد صحة مخاوف أمريكا. مع سعي الولايات المتحدة إلى إنشاء ناد من الديمقراطيات التي تعارض الصين صراحة، فليس من المستغرب أن يتواصل ويتخاطب الرئيس الصيني شي جين بينج إلى بوتين، في وقت حيث كانت روسيا تعد العدة للحرب ضد أوكرانيا. وكما يلاحظ الصحافي روبرت رايت، فإن الدول المستبعدة من مثل هذه التجمعات ستحتشد معا.
في الاستجابة لأولئك الذين يتساءلون لماذا ينبغي لنا أن نهتم بتراجع قوة أمريكا النسبية، ترد نخب السياسة الخارجية الأمريكية بسؤال بلاغي، هل تفضل العيش في عالم تهيمن عليه الولايات المتحدة أو الصين؟ في حقيقة الأمر، تفضل الدول الأخرى الحياة في عالم بلا هيمنة، حيث تحتفظ الدول الصغيرة بدرجة عادلة من الاستقلالية، وتدير علاقات طيبة مع الآخرين جميعا، ولا تضطر إلى اختيار أحد الجانبين، ولا تتحول في النهاية إلى أضرار جانبية عندما تتقاتل القوى الكبرى. كلما أسرع قادة الولايات المتحدة في إدراك حقيقة مفادها أن الآخرين لا ينظرون إلى طموحات أمريكا العالمية من خلال العدسات الوردية ذاتها، كان ذلك أفضل للجميع.