مصطلحات التجارة الحرة بمفاهيم اقتصادية
تُعد بعض المصطلحات في الاقتصاد غنية أيديولوجيا مثل مصطلح "التجارة الحرة". وإذا دافعت عنها في أيامنا هذه، فمن المرجح أن تُعد مدافعا عن الأثرياء، والممولين، والشركات الحرة. إذا دافعت عن الحدود الاقتصادية المفتوحة، فسيتم وصفك ساذجا، أو أسوأ من ذلك.
وكما هو الحال مع جميع الرسوم الكاريكاتورية، هناك جزء من الحقيقة في الموقف المناهض للتجارة. وقد أسهمت التجارة المتنامية في زيادة عدم المساواة وتآكل الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة في العقود الأخيرة. إذا اكتسبت التجارة الحرة سمعة سيئة، فذلك نتيجة تجاهل أنصار العولمة لسلبياتها أو تصرفهم وكأن لا شيء يمكن القيام به حيالهم. وقد مكنت هذه النقطة الخفية الديماغوجيين مثل دونالد ترمب من استعمال التجارة كسلاح وتشويه صورة الأقليات العرقية والإثنية والمهاجرين والمنافسين الاقتصاديين.
كما أن الكراهية تجاه التجارة الحرة لا تقتصر على الشعبويين اليمينيين، بل تشمل أيضا اليساريين المتطرفين، ونشطاء المناخ، والمدافعين عن سلامة الأغذية، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، والنقابات العمالية، والمدافعين عن حقوق المستهلكين، والجماعات المناهضة للشركات. وقد نأى الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه عن التجارة الحرة بشكل ملحوظ. وتعتقد إدارته أن بناء اقتصاد أمريكي آمن ومراعٍ للبيئة وعادل ومرن يجب أن يكون له الأسبقية على العولمة المفرطة. ويبدو أن كل التقدميين يعتقدون أن التجارة الحرة تحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية، مهما كان مفهومها.
لم تسر الأمور دائما على هذا النحو. كانت التجارة الحرة بمنزلة صرخة حاشدة أطلقها الإصلاحيون السياسيون في القرن الـ19، الذين عدّوها وسيلة لهزيمة الاستبداد وإنهاء الحروب والحد من أوجه عدم المساواة في الثروة. وكما يذكّرنا مؤرخ جامعة إكستر مارك ويليام بالين، في كتابه "باكس إكينوميكا: رؤى يسارية لعالم التجارة الحرة"، فقد لخصت العالمية الاقتصادية في تلك الحقبة القضايا التقدمية مثل معاداة النزعة العسكرية، ومناهضة العبودية والإمبريالية.
لم يكن الليبراليون السياسيون وحدهم هم الذين دعموا التجارة الحرة. لقد عارض الشعبويون الأمريكيون في أواخر القرن الـ19 معيار الذهب بشدة، لكنهم كانوا أيضا ضد التعريفات الجمركية على الواردات، التي اعتقدوا أنها تفيد الشركات الكبرى وتضر الناس العاديين. لقد مارسوا عديدا من الضغوط لاستبدال التعريفات الجمركية بضريبة دخل تصاعدية أكثر إنصافا. ثم، خلال الجزء الأول من القرن الـ20، نظر عديد من الاشتراكيين إلى التجارة الحرة، المدعومة بالتنظيمات فوق الوطنية، بوصفها الحل الفعال للنزعة العسكرية، وفجوات الثروة، والاحتكار.
ويبدو أن هذه الآراء المتضاربة تُشكل معضلة. هل تسهم التجارة في دعم السلام والحرية والفرص الاقتصادية، أم في تعزيز الصراع والقمع وعدم المساواة؟ في الواقع، تُعد هذه المعضلة أكثر وضوحا من كونها حقيقية. وتعتمد كلتا النتيجتين -أو أي شيء بينهما- على الجهة التي تعمل التجارة على تمكينها.
كان الليبراليون والإصلاحيون في القرن الـ19 من مؤيدي التجارة الحرة، لأنهم اعتقدوا أن سياسات الحماية تخدم المصالح الرجعية، بما في ذلك الأرستقراطيين المهرة، والشركات المحتكرة للأعمال التجارية، ودعاة الحرب. لقد اعتقدوا أن القومية الاقتصادية تسير جنبا إلى جنب مع الإمبريالية والعدوان. ويستشهد بالين بمقالة كتبها خبير الاقتصاد جوزيف شومبيتر في 1919، الذي صور الإمبريالية بوصفها "عارضا احتكاريا للنزعة العسكرية والحمائية الرجعية، وهي معضلة لا يمكن حلها إلا من قبل قوى التجارة الحرة الديمقراطية". وكانت هذه الرؤية هي التي ألهمت نظام التجارة الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org