التنمية المستدامة ومسألة "الذكاء المدمج"
تشغل التنمية، والحرص على استدامتها عبر الأجيال، بال العالم بأسره. وقد بينا في المقال السابق، أن التنمية المستدامة تسعى إلى الاستجابة لمتطلبات الوضع الراهن في تحقيق حياة كريمة للإنسان، بشرط ألا يؤثر ذلك سلبا في قدرة الأجيال القادمة على الاستجابة أيضا لمتطلبات الحياة الكريمة. والمقصود هنا هو أنه على الإنسان أن يهتم ليس فقط بنفسه وبمن حوله، بل بأولئك القادمين بعده أيضا. وكثيرا ما تبرز أمام جيل من الأجيال معطيات تتضمن فرصا تحمل تحديات تتسم بالتطور، وتتمتع بأثر ليس فقط في الجيل المواكب لبروزها، بل في الأجيال المتجددة بعد ذلك. ومن ذلك ما شهدته أجيال الثورات الصناعية من معطيات تقنية مثل وسائل النقل المختلفة، والكهرباء، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ومختلف التقنيات الرقمية الأخرى، مثل الحاسوب وشبكاته، وغيرها، حيث تنتقل هذه المعطيات إلى الأجيال جيلا بعد آخر، خاضعة لدور كل جيل في استخدامها، والاستفادة منها، والعمل على تطويرها.
نحن الآن، في هذا العصر، أمام تقنية رقمية صاعدة، تتمتع بخصائص غير مسبوقة، لم تحظ التقنيات الأخرى بمثلها، ألا وهي تقنية الذكاء الاصطناعي. فإذا كانت تقنيات النقل قد سمحت للإنسان بالقفز فوق المسافات والتجوال حول العالم بيسر وسهولة، وإذا كانت تقنيات الاتصالات والشبكات قد أعطت الإنسان القدرة على تجاوز المكان والزمان في التواصل مع الآخرين، فإن تقنية الذكاء الاصطناعي، المستندة إلى الحوسبة، قدمت للإنسان معطيات جديدة ترتبط بتعزيز خصائص الذكاء، الذي ميزه الله تعالى به عن سائر مخلوقاته. أي إن هذه التقنيات منحت الإنسان ذكاء إضافيا يزيد من إمكاناته الإدراكية، وقدراته على الإبداع والابتكار، واتخاذ القرارات السليمة، في مجالات الحياة المختلفة. وهنا يبرز دور ما يدعى "بالذكاء المدمج" الذي يتضمن استخدام ذكاء الإنسان إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي.
ويحلو لكثيرين طرح التساؤل الذي يقول أيهما أكثر ذكاء الإنسان أم تقنية الذكاء الاصطناعي؟ لكن هذا التساؤل ظالم لطرفيه. فالذكاء الاصطناعي امتداد لذكاء الإنسان، بما يماثل القول إن وسائل النقل امتداد لعضلات الجري لدى الإنسان، يتجاوز باستخدامها قدراته الطبيعية، أو القول إن وسائل الاتصال تسمح للإنسان بالتعامل الآني مع المعلومات على نطاق واسع، يتعدى حدود موقعه ليصل إلى مختلف أنحاء العالم.
يتجاوز الذكاء الاصطناعي، بطبيعته المادية الرقمية، ذكاء الإنسان في سرعة تلقي المعلومات، والتعلم منها، وتعددية قنوات التواصل معها، وضخامة حجمها، والتمكن من تخزينها، ومعالجتها، واستخراج المستهدف منها، وصياغة مخرجاتها صياغة حسنة، ربما باستخدام الصور التعبيرية، والعمل المتواصل دون كلل أو ملل. ويتفوق الإنسان، في طبيعته الحيوية، على الذكاء الاصطناعي، بأنه صاحب خيال وفكر وطموحات ومشاعر وشغف، بل وحكمة أيضا. فهو الذي استطاع بخصائصه هذه ابتكار الذكاء الاصطناعي، حيث وفر له البنية الحاسوبية اللازمة، وأمده بخوارزميات القدرة على التعلم، ومناهج السببية في طرح المخرجات، فضلا عن تزويده بالبيانات التي تؤدي إلى تعلمه، وتفعيل معطيات مخرجاته. ولا شك أن أي انحياز أو توجه غير سليم يعطيه الذكاء الاصطناعي في مخرجاته يعود إلى ذكاء الإنسان المسؤول عن إخراجه إلى النور.
يجمع "الذكاء المدمج" بين مزايا ذكاء الإنسان ومزايا الذكاء الاصطناعي في معالجة مختلف قضايا الحياة، مانحا لهذه المعالجة مزيدا من الفاعلية في التنفيذ، والكفاءة في المردود، ورشاقة في سرعة العمل والاستجابة للمتغيرات. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يشهد اليوم تطورا مستمرا، بل ومتسارعا، ومؤثرا في تطلعات المستقبل، فلا بد أيضا، انطلاقا من ضرورة التوجه نحو التنمية المستدامة، أن يكون هناك تطور مثيل آخر يواكبه، يهتم بشؤون إعداد الناشئة، جيل المستقبل، للتعامل معه. بذلك يستطيع ذكاء الإنسان أن يكون، بشكل مستدام، في موقع الموجه الدائم والحكيم للذكاء الاصطناعي، في إطار الذكاء المدمج. فجميع الناشئة اليوم سيعملون في المستقبل جنبا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، وسيكون بينهم أيضا المتخصصون المسؤولون عن تطويره. والقول أخيرا هو إن علينا التخطيط للجاهزية المطلوبة لهذا للذكاء المدمج، الذي بدأت ملامحه في الظهور.