الأسواق الصاعدة .. السير في اتجاهين

دائما ما تتبنى بعض الدول إصلاحات مواتية للسوق، في حين تفعل بلدان أخرى عكس ذلك. وفي أغلب الأحيان، يبدو أن هناك عددا قليلا من الأنماط التي تميز اختيارات مختلف الدول. ولكن في هذه الأيام، هناك اتجاه أوضح في صنع السياسات في مختلف الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية: فالبلدان الأكثر هشاشة ماليا تسعى إلى إصلاحات منضبطة مواتية للسوق، في حين يبدو أن بعض الاقتصادات النامية الأكثر استقرارا من الناحية التاريخية تتحرك في الاتجاه المعاكس. وهو ما نطلق عليه "حركة السير في اتجاهين" في الأسواق الصاعدة.

لقد كان هذا العام مميزا بسبب العدد الهائل من اقتصادات الأسواق الصاعدة الهشة ماليا التي تبنت إصلاحات اقتصادية تهدف إلى القضاء على مواطن الضعف. وغيرها تبذل جهودا لوضع حد لتشوهات أسواق النقد الأجنبي، وكبح نمو الدين العام، ومراكمة احتياطيات النقد الأجنبي، وتهيئة الأوضاع للنمو المستدام.

وفي الوقت ذاته، هناك عديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة متوسطة الدخل التي تتمتع بأساسيات اقتصادية كلية أصح وعلاقات أكثر استقرارا مع أسواق رأس المال الدولية تعتمد، أو يبدو أنها ستعتمد قريبا على الأرجح، سياسات أكثر تيسيرا من شأنها التهديد بتآكل الميزانيات العمومية للقطاع العام ورفع علاوات المخاطر على المستوى القُطري. ومن الأمثلة على ذلك البرازيل وهنغاريا وإندونيسيا والمكسيك وبولندا وتايلاند.

وقد استجابت أسعار السندات في الأسواق الصاعدة لهذه الاتجاهات بطريقة واضحة: فقد تقلصت فروق أسعار الائتمان في البلدان الهشة أكثر من سواها، وإن كانت آخذة في التحسن. ففي الأشهر التسعة الأولى من 2024، حقق الدين السيادي المقوّم بالدولار دون المرتبة الاستثمارية في الأسواق الصاعدة عائدا يزيد على 15%. وعلى النقيض من ذلك، حقق الاستثمار في البلدان التي تحتل مرتبة أعلى من حيث الجدارة الائتمانية عائدا أقل من 5% خلال الفترة نفسها.

إن القاسم المشترك بين هذه الفترات التاريخية هو أن كلا منها كانت في أعقاب أزمة ذات طابع معين. وهذا يبدو أمرا بديهيا: فعندما تعود شهية المخاطرة إلى سوق ما بعد تعرضها لأزمة، غالبا ما يوجه المستثمرون محافظهم نحو البلدان الأخطر والتي سوف تستفيد أكثر من غيرها من زيادة الثقة.

ولكن الأمر مختلف بعض الشيء هذه المرة، حيث لم تحدث أزمة مالية كبرى، سواء بالنسبة للأسواق الصاعدة أو للعالم بشكل عام. والواقع أن رصيد الديون السيادية المتعثرة لم يتجاوز نصف في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي في العام الماضي، وفقا لقاعدة بيانات التعثر عن سداد الدين السيادي التي يحتفظ بها كل من بنك كندا وإنجلترا. ورغم أن هذه النسبة أعلى مما كانت عليه قبل بضع سنوات، فإن انتشار التخلف عن السداد أقل كثيرا مما كان عليه في أواخر ثمانينات القرن العشرين، عندما كان رصيد الديون المتعثرة أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.

ويتمثل أحد التفسيرات في أن المخاطر التي تفرضها تدفقات رأسمالية ضخمة، وإن كانت متقلبة، أصبحت اليوم تُدار بشكل أفضل بكثير مقارنة بسبعينات وثمانينات القرن العشرين. والسبب أن كثيرا من الاقتصادات النامية تعلمت درسين مهمين: إبقاء عجز الحساب الجاري ضمن حدود معينة ومراكمة احتياطيات النقد الأجنبي.

فالدرس الأول يحمي البلدان من "ضعف التدفقات" الناجم عن الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي. أما الدرس الثاني فيحميها من "ضعف الرصيد" الناجم عن عدم كفاية الدولارات عند نضوب مصادر التمويل.

وقد يساعد هذا في تفسير السبب وراء تبني كثير من البلدان الهشة ماليا لتدابير الإصلاح. إن مزايا التأمين الذاتي -والحاجة إلى الحد من ضعف التدفقات وضعف الرصيد- معروفة جيدا الآن إلى الحد الذي قد يجعل البلدان الهشة تدرك أن العيش دائما في مستوى يتجاوز مواردها المالية ليس خيارا عمليا على مستوى السياسات، وخاصة عندما تقوم الولايات المتحدة بتشديد السياسة النقدية.

هناك على ما يبدو تصميم على زيادة النفقات من جانب البلدان التي لديها ميزانيات وطنية أقوى وعدد أقل من ذكريات عدم الاستقرار المالي في الآونة الأخيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي