أغادر "الاقتصادية" وأنا سعيد
ها قد حان موعد الترحال. بعد نحو عقدين من الزمن، أرى من الأنسب ولظروف شخصية قاهرة، أن أضع القلم جانبا وبذلك يأتي العمود هذا على خاتمته.
من العسر الكتابة عن عمود من قبل كاتبه. السيرة الذاتية للعمود هي الآن ملك القراء الذين كانوا الشغل الشاغل لي طوال الأسبوع ولعشرين سنة وربما نيف لتقديم ما يمكن تقديمه من الجديد والمختلف والشيق من المواضيع.
السيرة والمسيرة لهذا العمود لم يشوبها يوما ما خلاف مع هيئة التحرير. وها أنا أغادر قرير العين، مطمئن البال، راضيا مرضيا أنني منحت "الاقتصادية" أفضل ما لدي ومن ثم كسبت عقولا وقلوبا هي الأغلى ما لدي.
في غضون نحو عشرين عاما، لم تتدخل هيئة التحرير في عملي وطبيعة المواضيع التي أنتقيها؛ وأكاد أجزم أن هامش حرية الكتابة والتعبير عن الرأي الذي منحته "الاقتصادية" لي ربما لما حصلت عليه في أروقة وسيلة إعلامية غربية.
من هنا أقدم الشكر الجزيل وامتناني الكبير لكل رؤساء التحرير الذين تعاملت معهم وهيئات التحرير المتعاقبة، حيث لم تصلني منهم يوما ما ولو رسالة نصية واحدة أنه علي أن أكتب في هذا الاتجاه وليس ذاك.
ستبقى تجربة العمود هذا نقطة مضيئة في مسيرة حياتي العملية والأكاديمية. يكفي فخرا أن مقالاتي في هذا العمود شكلت مادة دسمة لكتاب أكاديمي مهم أصدرته قبل خمسة أعوام؛ ويزيدني فخرا أنني منكب حاليا على مخطوطة كتاب آخر سيكون للمادة التي نشرتها في "الاقتصادية" حصة الأسد فيه.
وكانت تردني بين الحين والأخرى من الأخوة في هيئة التحرير وأحيانا من رؤساء التحرير كثير من الإشادة والإطراء وأن العمود هو محل الاهتمام والتقدير والثناء لدى شريحة كبيرة من القراء وحتى على مستوى مسؤولين كبار داخل السعودية.
وكثيرا ما كانت الصحف والمواقع العربية تنشر المقالات على صفحاتها نقلا عن "الاقتصادية"؛ وحسب علمي، فإن بعض المواضيع النقدية والمقالات التي تخص مسار الحياة ناقشتها الصحافة في المملكة وجرى التطرق إليها على مستويات أخرى.
ولا علم لي مدى التأثير الذي أحدثه العمود، سلبا أم إيجابا، بيد أنني وقياسا على ما لقيته واستلمته من تعليقات، يبدو لي – والعلم عند الله – أننا – والحمد لله – تركنا أثرا طيبا في مضامير مختلفة وساهمنا وبتواضع شديد في النهضة التي نشهدها في السعودية.
كتبت أكثر من ألف مقال فاق حجمها سقف 700 ألف كلمة. هناك نقاط مضيئة في هذه المسيرة، ستبقى نبراسا لما تبقى لي من العمر في هذه الدنيا الفانية.
كانت تجربة الكتابة في "الاقتصادية" تجربة مليئة بالبهجة والحبور وكذلك، وهذا الأهم، أنني كنت أتعلم شيئا جديدا من كل مقال أكتبه لما كنت أجريه من بحث مضني عن المعلومة ومن ثم إتباع أسلوب صارم للتحقق منها.
تخللت مسيرة العمود نجاحات كبيرة في رأي المتواضع، ولا علم لي أن شاركني القراء الكرام وجهة النظر هذه، لأن رأيهم هو المحك والحكم.
ولكن بفخر أقول إن العمود تطرق إلى مواضيع فكرية عديدة منها شرح يتخلله تحليل خطابي نقدي لآيات بينات من الذكر الحكيم، كان لها صدى كبيرا.
وعالج العمود مواضيع حساسة تخص مكانة اللغة الأم – العربية – وأهميتها وما سيحدث للعرب لو أضاعوها. وقدم العمود اقتراحات في كيفية الحفاظ عليها؛ ومن ثم يكفي العمود فخرا أنه استنبط على ما أظن فعلين في اللغة العربية، أتذكر منهما "خورزم" من الخوارزمية وصاحبها "الخوارزمي".
وفي ذكر الخوارزمي، كان للعمود باع في تسليط الضوء على الإنجازات العربية والإسلامية في مضمار العلوم وتأثيرها في تاريخ العلم وتطوره؛ وكان التركيز على أسماء محددة ومنها محمد بن موس الخوارزمي الذي لولاه لتأخرت الثورة الرقمية وثورة الذكاء الاصطناعي ربما ألف سنة أخرى، هذا بشهادة العلماء الغربيين.
السرد التاريخي في العمود لم يكن مجرد نقل أحداث. الأهم من ذلك كان سياقها وربطها بالحاضر الذي يعيشه العرب والمسلمون. لا يخفى ما كان يكتنفها من نقد للحاضر، بيد أن القارئ اللبيب يلاحظ أن النقد يتبعه في الغالب حلول واقتراحات للتغلب على صعوبات الحاضر – وهي صعوبات جمة – تعصف بالبلدان الشرق أوسطية.
وتطرق العمود إلى مواضيع أخرى شتى، منها ما يخص الدراسات اللغوية الحديثة وكيفية تطبيقها على علوم اللغة العربية؛ هذا المحتوى بالذات شكل مادة رئيسية لأحد كتبي باللغة العربية.
ونقلت للقراء الكرام الكثير من الأحداث واضعا إياها في قالب نقدي تحليلي تخص الاقتصاد، والسياسة، والفلسفة، الثورة الصناعية الخوارزمية الحديثة وغيرها من المواضيع الكثير رابطا إياها أحيانا بحال الاقتصاد والخدمات والصناعة والتعليم والأحوال الأخرى السعودية.
أغادر وأنا سعيد ومنشرح الصدر وأرى السعودية في طريقها صوب اقتصاد تريليوني وانفتاح وتسامح كبيرين وتركيز على العلم والمعرفة وتوطين الصناعة والتكنولوجيا الخوارزمية الحديثة ومنح السعودة دورا محوريا في هذا النهوض والتنمية الشاملة؛ وهذا ما كان العمود يركز عليه في كثير من مساهماته.
وإن سئلت عن أحب مقال إلى قلبي من مجموع أكثر من ألف مقال نشرته في "الاقتصادية" أقول إنه المقال المعنون "سردية الحمد لله".
وختاما، وأنا أستودعكم الله، أقول: "الحمد لله".