فضائح الوثائق

جرت العادة في الدول المتقدمة، بحكم دساتيرها، على نشر وإعلان الأسرار السياسية لحقبة ما بعد مرور 30 إلى 50 عاما على انقضائها. وكان من أمتع ما نُشر أخيرا ما صدر عن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات البريطانية حول السنوات الأخيرة في عمر الإمبراطورية. وليس سرا أن ما يُذاع ويُنشر يخضع لبعض التعديلات البسيطة، حيث يستحيل إفشاء كل شيء؛ حفاظا على سمعة البلد وإخفاء لأحداث مشينة لا يريد السياسيون ربطها بالوطن.
ومن بديهيات الصحافة، خاصة في الغرب، اللهث وراء الضربات الصحفية والفضائح والبقع الرمادية في التاريخ ومذكرات الشخصيات المرموقة، خاصة تلك التي يثور حولها الجدل. وقد تفوقت الصحافة الأمريكية في هذا الصدد، ويحفل تاريخها بضربات هزت الدوائر السياسية، وهو فضل يُذكر لهذه الصحافة. غير أن التدخل الحكومي الهائل بعد أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) حول الولايات المتحدة إلى دولة قمعية غير تلك الدولة التي كانت تحكي عنها الأفلام وتكتب عنها الأقلام، بل إن كثيرين من زوار أمريكا، خاصة من العالم العربي عانوا الأمرين بدءا من الجمارك إلى السلطات الأمنية العديدة التي أصابتها رجفة خوف أفقدتها التوازن، وعادت بها إلى غياهب الأنظمة الشمولية.
في إطار كل ذلك تسربت أكثر من 90 ألف وثيقة حول سلوك الولايات المتحدة في أفغانستان؛ ما أثار إزعاج الإدارة الأمريكية. وأول دليل على ذلك أن الرئيس أوباما سارع ليعلن أنها وثائق غير مهمة ولا تؤثر على الحسابات الأمنية، في حين أعلنت مصادر أمنية أخرى أن كشف الوثائق يعرض حياة كثير من الأمريكيين للخطر.
فما السبب؟
السبب يتمثل في تلك الهوة بين ما تعلنه أمريكا دائما من خلال تصريحات المسؤولين وتعليقات المعلقين، وكثير منهم أبناء شرعيون للحكومة يعبرون عن توجهاتها، التي تؤكد أن دور الولايات المتحدة في أفغانستان هو:
ـ التصدي لحركة طالبان والقضاء عليها.
ـ حماية نظام كرزاي والمؤسسة الموالية للولايات المتحدة.
ـ احتواء باكستان، خاصة أنها تُعتبر بؤرة مضادة لأمريكا – برغم كل التصريحات عن التحالف الاستراتيجي.
ولم تتعرض وسائل الإعلام الأمريكية – وربما في أنحاء العالم – لقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال، ولم يسمع أحد بفرق القتل المحترفة ولا شركات القتل والمرتزقة الذين تعتمد عليهم واشنطن في تنفيذ العمليات القذرة، شريطة أن يبقى ثوبها ناصع البياض وصورتها في أحلى مستويات الجمال.
جاء نشر الوثائق بمثابة فضيحة؛ لأنها تتحدث بإسهاب عن غارات فرقة المهام والعمليات الخاصة 373 ضد من تسميهم المتمردين أو الإرهابيين، التي أسفرت عن مقتل مئات الأبرياء. من أسماء القتلى الذين راحوا ضحية العمليات العشوائية ''شاه أغا'' الذي قُتل في حزيران (يونيو) عام 2009 مع أربعة من أنصاره، ووصفته المصادر الأمريكية بأنه ينتمي إلى القاعدة. ومن الأسماء أيضا ''أبو ليث الليبي'' الذي وصفه الأمريكيون بأنه قائد كبير في القاعدة. وكشفت الوثائق حجم المشاركة الأمريكية في ضرب وزيرستان على الحدود الأفغانية – الباكستانية، التي يعتقد الأمريكيون أن بها أعدادا كبيرة من تنظيم القاعدة. وقد كشفت الوثائق أيضا أن عدد من ماتوا مع الليبي كان سبعة أطفال.
ونشرت صحيفة ''الجارديان'' البريطانية ومجلة ''دير شبيجل'' الألمانية، أن هناك قائمة تضم ألفي اسم مطلوب تصفيتهم تماما من طالبان والقاعدة. وتقوم الفرقة 373 بانتقاء أسماء المرشحين للقتل من بين القائمة المُسماة قائمة الأولويات المشتركة.
من الوثائق ما تحدث عن أن المخابرات الباكستانية كانت تتعاطف مع المتمردين الأفغان. وقد ورد بالتحديد أن باكستان سمحت لإدارة الجاسوسية في مخابراتها بالتعامل مع طالبان والاجتماع بهم في اجتماعات سرية لتنظيم شبكات العمليات المتشددة التي تهاجم الأمريكيين في أفغانستان، بل ووضع الخطط لاغتيال القيادات الأفغانية. وقد علقت ''الجارديان'' على هذا الاتهام بأن الوثائق لم تبرز أية دلائل على هذا التواطؤ، بل إن جيم جونز/ مستشار لجنة الأمن القومي في البيت الأبيض امتدح التعاون مع باكستان، وناشدها المزيد من الجهد في هذا الصدد.
وأبرزت ''دير شبيجل'' أن الوثائق أثبتت أن ضباط الاستخبارات والأمن الأفغان لا حول لهم ولا قوة أمام طالبان، وركزت المجلة على الخطر الذي يهدد قوات التحالف في الشمال، خاصة أن القوات الألمانية المشاركة في التحالف تتمركز هناك.
وقد وصف بعض المحللين هذه الوثائق بأنها ''مادة خام للمعلومات الاستخباراتية''؛ لأنها تنقل تقارير صغار الضباط في المواقع، ولا تتطرق لأمور لها علاقة بسياسة الإدارة الأمريكية.
ويصر الأمريكيون على أن الوثائق لا تغطي العمليات بالغة السرية، ورد الموقع الذي نشرها بأن ''هناك المزيد من الوثائق 15 ألفا سترى النور قريبا''.
الجدير بالذكر، أن الوثائق تغطي فترة زمنية تمتد من عام 2004 إلى عام 2009، أي أثناء حكم الرئيس الأمريكي/ جورج دبليو بوش.
وتشعر إدارة أوباما بالحرج البالغ؛ ولذلك سارعت إلى الحديث عن قيام الرئيس أوباما بوضع استراتيجية جديدة في أفغانستان تتيح تخصيص مزيد من الأموال ''لحماية المدنيين والأبرياء''، والتركيز على استئصال القاعدة. والطريف أن الأجهزة الدعائية المحيطة بالرئيس تسارع إلى التقليل من قيمة الوثائق مع إصدار تعليمات للأجهزة التابعة للإدارة أن تعد العدة لما قد تسفر عنه مخاطر كشف بعض الوثائق.
وتعكف لجان متعددة الآن على تمشيط الوثائق للتعرف على أوجه التهديد والخطر فيها، وبحث احتمالات تأثيراتها السلبية على الجهد الحربي وتحديد الأضرار المحتملة ضد الأمن القومي. ولم تحدد واشنطن حتى الآن المسؤول عن التسريب، وإن كان من المعتقد أنه من العاملين في مجال الكمبيوتر.
وقد أعاد الحادث إلى الأذهان ما فعله الجندي ''برادلي ماننج'' في العراق عندما قدم صورا عن طائرة هليكوبتر قتلت مدنيين وأطفالا أبرياء. وكان ماننج تحدث إلى صديق له، والذي قام بالإبلاغ عنه للسلطات.
ويعلق البعض على تسريب الوثائق بأنه جزء من السياسة الأمريكية التي تميل إلى الحديث عن أمور ولَّت وتتبعها باعتذارات شكلية بعد أن تكون قد قذفت ببعض الأسماء إلى المحرقة، ولعل في جوانتانامو وأبو غريب خير مثال على ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي