عرب وعجم الإسلام
لا شك أن بعض عجم الإسلام شوهوا العقيدة الإسلامية بإدخال بعض الخزعبلات في طقوسها، إضافة إلى تشويههم سمعة بعض حكام الإسلام من العرب وبالأخص هارون الرشيد.
وكما أساء عجم الإسلام لهارون الرشيد وأمثاله، فقد أساء بعض عرب الإسلام لدينهم، باتباعهم عادات ألفوها فطبقوها في طريقة إدارة دفة الحكم.
ولا نغمطهم الحق؛ إذ هم ولا شك كانوا يتمتعون بقدر لا يستهان به من أخلاق العرب التي أقرها الإسلام سواء البطولات أو الشرف أو التفكير الحر المستقل البعيد عن التبعية، ومع ذلك كانت لهم تصرفات مشينة تصل إلى حد الدناءات لدرجة تجعل سلوكيات بعضهم إن كانت إحسانا فبتكلف أو إساءة فطبيعة.
لنأخذ على سبيل المثال تقارض الثناء بين ولاة الدول الإسلامية وعمالها، إذا صح التعبير فيروى عن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ أنه سأل عمرو بن معدي كرب عن أحد ولاة الأمصار فأثنى عليه عمرو قائلا: "خير أمير نبطي في حبوته، أعرابي في نمرته، أسد في تامورته، فرد عليه عمر باستفهام تعجبي؟! لسرّ ما تقارضتما الثناء!؟
ونقيض هذه الحادثة تصرف من أحد الولاة عندما سأل أحد معاونيه عن مسألة فقال المسؤول: يا سيدي أنت خير مني وأعلم، فغضب الوالي عليه، وقال: إني لم آمرك بأن تزكيني بل أن تقول ما تراه أنه الحق.
إذن، مسألة التواصي بالحق جعلت في الحادثة الأولى في مرتبة دون مرتبة مراعاة أصحاب ذوي النفوذ، وهذا بالطبع يعطي أثرا سلبيا على تطبيق القوانين الإسلامية، خاصة تجاه علية القوم وأكابرهم، فهل هذا طبع نشأوا عليه أو ورثوه قبل ذلك، ولا يمكنهم تغييره.
الحقيقة أن السلوكيات لا تورث، وإنماء يورث الاستعداد لأي سلوك.. كما أن المشية ليست سجية، فالطبع لا يغلب التطبع، فلقد ذكر شيخ من أهل المدينة أنه رأى عمر بن عبد العزيز ـــ رضي الله عنه ـــ في المدينة، وهو من أحسن الناس لباسا، وأطيبهم ريحا، ومن أخيلهم مشية، ثم يقول رأيته بعد أن ولي الخلافة يمشي مشية الرهبان، فمن حدثك أن المشية سجية فلا تصدقه.
والعرب أحبُّ الناسِ للجاه، ومع ذلك هذّب الإسلام طباع الكثير منهم، ومثلُ ذلك حينما كان الإمام علي ـــ كرم الله وجهه ــــ راكبا لأمر ما، تبعه رجل يمشي خلفه فرده علي وقال له ارجع فإن في مشي مثلك مع مثلي فتنة للمتبوع ومذلة للتابع.
ولكن رغبة التميز والعيش في البروج العاجية التي كان بعض حكام العرب في العصر الأموي يعيشونها متكبرين لدرجة أنهم يحرصون على أن يتميزوا عن العامة في لباسهم ومأكلهم ومشربهم ومركبهم، كل ذلك جعلهم يعيشون أنانية مفرطة تدعو إلى الطبقية بشكل فاضح.
ألم يقل هشام بن عبد الملك حينما نظر إلى رجل يركب برذونا طخاريا سائلا إياه من أين لك هذا؟ فرد الرجل حملني عليه فلان بن فلان، فقال هشام متبرما: أو قد كثرت الطخارية حتى ركبتها العامة؟
وما دام هذا رأي متسنم قمة الهرم في المجتمع آنذاك، فمن يلوم الصميل بن حاتم الذي وصل إلى مرحلة كبيرة من الغرور والزهو بالنفس، حينما كان في الأندلس، فمر بمعلم يتلو الآية الكريمة: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، فوقف منبهرا، وكان يجهل القراءة والكتابة، فنادى المعلم وسأله: أهكذا أنزلت الآية؟ فأجاب المعلم بأن نعم، فقال الصميل بحسرة: فأرى والله أن سيشاركنا في هذا الأمر الأراذل والسفلة!
ومثل آخر من هذه النماذج أبا الربيع الفنوي، وكان أعرابيا جافيا شديد الكبر، سأله أحدهم مرة من خير الخلق؟ قال: الناس، وخير الناس؟ قال: العرب، وخير العرب؟ قال: مضر، وخير مضر؟ قال: قيس، وخير قيس؟ قال: يقصر؟ (عشيرة)، وخير يقصر؟ قال: (غنى) (فصيلة من العشيرة)، وخير غنى؟ قال: المخاطب لك، ثم سأله السائل: أيسرك أن تتزوج بنت يزيد بن المهلب؟ قال: لا والله، قال: ولك ألف دينار، قال: لا والله، قال: ولك الجنة، فأطرق ثم قال: على ألا تلد مني!!
ولم تكن هذه الأمور موجودة آنذاك إلا بسبب أن أغلبية صناع القرار كانوا يتخلقون بها باستثناء بعضهم.
ولم تخلُ سياسات زعماء وحكام عرب الإسلام آنذاك من الدناءات السياسية، فهذا المنصور يكلف أحد أتباعه بقتل عمه عبد الله بن علي، وهو معتقل فيأمر، بخنقه مع الجارية على السرير، ويأمر بهدم الدارِ عليهما ليوهم الآخرين، بأن موته كان تحت أنقاض الدار، وهما متضاجعين ثم يحظروا القاضي ابن علام وغيره ليشهدوا على جريمة المباحث العامة التابعة للمنصور.
والمنصور هذا كان على صداقة مع عمرو بن عبيد من شيوخ المعتزلة الذي كان معروفا بالزهد والورع، فلما ولي المنصور الخلافة، قدم إليه عمرو ليبين له حقيقة الأوضاع السائدة، وليقدم له النصح لا ليسأله حطام الدنيا، ولما هم بالخروج، فسأله المنصور: هل لك من حاجة يا أبا عثمان؟ فيرد بأن نعم ألا تبعث إلى حتى آتيك فقال المنصور: إذن لا نلتقي، فقال عمرو تلك حاجتي، فلما انصرف أتبعه المنصور النظر، وقال: كلكم يمشي رويد، كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد.
ولا يأبه عمرو هذا بأن يقول كلمة الحق حتى وإن كان صاحبا للخليفة، فلقد مر في أحد الأيام ورأى حشدا من الناس كثيرا، وسأل عن الخبر، فقالوا له: رجال الخليفة يقطعون سارقا، فقال: ـــ سبحان الله ـــ سارق السر يقطعه سارق العلانية؟!
وإن جاز لنا القول إن سعي عرب الإسلام آنذاك إلى الحكم إلا طلبا للجاه والمال، إضافة إلى زعم الكثير منهم الحكم بما أنزل الله، وليست حروب الأمويين مع الزبيريين إلا شاهدا على ذلك، فهذا يطلب دراهم الشام، وذاك يطلب دراهم العراق، وتبقى المسألة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، وهو أن عرب الإسلام وإن أساءوا لدينهم فإن إساءتهم لتطبيق المنهج لا تعني البتة فساد ذلك المنهج، فلقد مرت بنا نماذج عظيمة من بعد مبلغ الرسالة ستظل شاهدة على إمكانية تطبيق المنهج بكل نزاهة وعدالة مهما بلغ الإحباط لدى الأمة.