«سوف» و«سا» ومسيرة البناء
تختلف الثقافات الإنسانية في أمور كثيرة مثلما تتفق في أمور كثيرة أخرى. وهذا أمر طبيعي نتيجة أمور عدة، منها ما يتعلق بالعمر الزمني للثقافة واستمرارية تطورها، ومنها ما يتعلق بالمؤثرات الخارجية والداخلية التي تتعرض لها كل ثقافة. وخلال 20 سنة الماضية أصبح هناك اتجاه لتوحد الثقافات المختلفة وانصهارها بما يعرف بالثقافة العالمية بما لها من إيجابيات وسلبيات. ولعل من أهم المعطيات الجديدة في العالم الجديد سلوك العملية الإنتاجية الناجحة مسارا متشابها من حيث النظم الإدارية والاقتصادية والرقابية ومن حيث مكونات ومدخلات ومخرجات الإنتاج الإنساني، سواء كان ذلك في المكتب أو المصنع أو كان في القطاع الخاص أو القطاع العام. ولعل من الأمور التي لا خلاف عليها في كثير من المجتمعات في الوقت الحاضر هي قضايا الحوكمة والشفافية واستخدام التخطيط والفكر الاستراتيجي ووضع البرامج التنفيذية في أبعادها الزمنية القصيرة والمتوسطة والطويلة. ولذا أصبح من أبجديات العمل أن يقوم كل شخص يتولى مسؤولية جهاز أو إدارة أو مصنع بوضع استراتيجية لعمله وتنفيذها عن طريق خطط وبرامج واضحة المكونات والعمر الزمني. وهذا ليس أمرا ثانويا، بل إنه من صلب وأولويات النجاح ويوفر للمجتمع البيئة المناسبة لتقييم وتقويم مسيرة العمل.
إن المجتمعات الإنسانية لم تعد تأخذ أو تؤمن بالتفرد القيادي، إنما بالعمل المؤسسي القائم على التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقييم. وإذا كان من الأمور الطبيعية أن يتم اختيار القيادات الإدارية انطلاقا من كفاءتها وقدراتها العلمية والعملية ومناسبتها للمواقع المختارة لها، فإن التسلسل الطبيعي للمسؤولية يحتم قيام الشخص المختار لقيادة دفة العمل في موقع ما، أن يقوم بوضع تصور كامل للكيفية التي سيدير بها الجهاز المنوط به قيادته ومن ثم عرضه على مستويات معينة ومحددة من أصحاب القرار. ومع تقبل الجميع خصوصية بعض الأجهزة وضرورة إبقاء ما يدور فيها ضمن حلقات ضيقة، إلا أنه كلما كانت المسؤولية ذات علاقة مباشرة بحياة الناس اليومية مثل الوزارات والمؤسسات العامة وأجهزة الخدمات والمرافق، كانت الشفافية والوضوح مطلباً أساسيا يجب إطلاع العامة على برامج وأفكار وخطط المؤسسة وقيادتها ليكونوا على بينة من مستقبل حياتهم وما يجب عليهم الالتزام به من مسؤوليات نحو أسرهم ومجتمعهم وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
ومع أهمية هذا النهج وضرورة الأخذ به، إلا أن واقعنا لا تظهر فيه هذه القيمة الإدارية بشكل جلي ولا يعلم الكثيرون (أو لا يسمح لهم) عن الخطط والبرامج القائمة والمستهدفة ومتى وكيف ستنفذ. قد تكون هناك شذرات من هذا الأمر وبصيغ خجولة، إلا أن المبدأ العام هو أن يتولى شخص ما المسؤولية الكبيرة ويخرج منها والعامة لا يعرفون ماذا كان يريد أن يقوم به وما برامجه ومشاريعه وماذا حقق خلال سنوات مسؤوليته. فما نمارسه بصفة عامة هو إجراء مقابلة إعلامية سواء في جريدة أو محطة فضائية أو إذاعية بعد الاختيار بعدة أيام، ومن ثم يقوم هذا المسؤول بإطلاق أحلام وأمان تلامس رغبات العامة مستخدما الكلمتين السحريتين ذواتي الرنين الخالد في لغتنا العربية وهما ''سوف'' و''سا'' بحيث لا يبقى أمر إلا سيقوم به ولا مشروع أو تنظيم إلا و''سا'' يأخذ به. وخلال الفترة الذهبية لهذا المسؤول (وهي غالبا عدد من الأشهر وبحد أقصى سنة)، نجد حرف السين يلعلع في كل حديث. وبعد انقضاء واستهلاك الحرف الغلبان تمر مرحلة البيات الشتوي، فلا مسؤول يتحدث ولا العامة قادرون على متابعة ماذا يعمل ويصبرون أنفسهم بالانتظار وكلهم أمل أن يكون هذا الهدوء سابقا لعاصفة التغيير والتطوير.
خلاصة الأمر من كل ما سبق أن ضرورة وتسارع الحياة ومتطلبات التنمية والتنافس الدولي تحتم على مجتمعنا أفرادا ومؤسسات إعادة النظر في آلية عملنا، وذلك بأهمية قيام كل مسؤول ينوط به قيادة أي منظومة في القطاع العام أو القطاع الخاص بأن يبدأ عمله بوضع الفكر الاستراتيجي والخطط القابلة للتنفيذ وأن يلغي من قاموسه ''سوف'' و''سا'' ويترك أعماله وإنجازاته المبنية على خططه وبرامجه تتكلم بعد النجاح بتنفيذها.
إن مبالغتنا في ''سوف'' و''سا'' أوقعتنا في إحراجات وقللت من استثمار مواردنا وإمكاناتنا في الوقت والمكان الصحيحين. كما أنها أضعفت ثقتنا وزادت من سلبيتنا بعدم التفاعل مع ما يطرح.
كلنا أمل بإعادة النظر في منهجنا الإداري، وليعلم الجميع أن المجتمع أصبح أكثر وعيا وقدرة على المتابعة وفرز الغث من السمين وأن (سوف أعمل وسأطبق) غير مرغوبة. فما يبحث عنه الجميع: لقد نفذت ولقد أنجزت ما ورد في الخطة أو البرنامج. إنه مطلب بسيط وممكن التنفيذ ونتائجه كبيرة ومثمرة. فهل يبدأ الجميع الآن ويتماشون مع عصر الشفافية عصر خادم الحرمين عبد الله بن عبد العزيز أم نستمر في فلسفة ''حنا أبخص''؟
ماذا لو؟
ماذا لو كان إلزاما نظاما أن يتزامل السلف والخلف في العمل لمدة شهرين ويسلم ويستلم كل مسؤول من الآخر. لو أخذ بذلك لحققنا أمرين مهمين أولهما ضمان تنفيذ ما سبق اعتماده وكذلك تحقيق انسيابية مسيرة العمل. أما الأمر الآخر فهو تقليل حساسية تقبل التغيير وإيصاله إلى مرحلة الأمر الطبيعي وليس الشعور بالمرارة أو الزهو.